شرح هذا الحديث : أولاً قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال)، إنما أداة حصر ، والأعمال عام يعم كل عمل ، فما كان منها قربة أثيب فاعله، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإن صاحبه يثاب عليه إذا نوى به نية حسنة ، نعود فنقول: كلمة الأعمال، (إنما الأعمال)، إنما قلنا أداة حصر والأعمال لفظ عام يعم كل عمل ، سواء كان العمل عبادة ، أو كان عادة ، فأما كونه عبادة فأمره ظاهر ، دخول النية فيه ، لكن كونه عادة كيف يكون؟ ؛ نقول: إن ما كان من أمور العادات كالأكل مثلاً والشرب مثلاً والنوم فإن العبد يؤجر عليه ويثاب عليه إذا نوى به أمراً حسناً ، التقوي على طاعة مثلاً ، يأكل ويشرب ، نعم ، ليتقوى على قتال العدو يثاب أو لا؟ ؛ نعم يثاب ، كذلك ينام مبكراً ليتقوى على الطاعة في آخر الليل ، قراءة القرآن ومطالعة العلم والقيام للوتر ، يثاب على هذا النوم أو لا؟ ، هكذا، كذلك النكاح ، نكح ليحصن نفسه وليتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، يثاب على هذا أولا؟ ، وتحصيل النسل وتكثير الأمة، نعم يثاب على هذه النية وهكذا، وقوله: (بالنيات) الألف واللام فيها بدل من الضمير، والضمير مقدر هنا تقديره هاء ، مقدر بالهاء ، فكأننا قلنا: الأعمال بنيّاتها ، الأعمال بنيّاتها ، والمتعلق بهذا محذوف ، المتعلق متعلق الجار والمجرور ، متعلق هذا الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة ، الأعمال معتبرة بنيّاتها ، والنية في اللغة هي القصد ، وتأتي للتمييز بين العبادات ، كتمييز الفرض عن فرض ، وتمييز الفرض عن نفل ، فمثلاً أنت الآن عليك صلوات فائتة ، نمت فحينما قمت فاتتك مثلاً صلاة المغرب والعشاء والآن أنت الفجر ، نعم ، فتحتاج إلى تمييز كل صلاة عن أختها ، أو نمت مثلاً عن الظهر والعصر فقمت المغرب ، قبيل المغرب ، فتحتاج أن تنوي أن هذه الظهر وأن هذه إيش؟ العصر، فهذا مثال لتمييز الفرض عن فرض ، وكذلك تمييز الفرض عن النفل الأمر فيه ظاهر ، وكذلك تمييز العبادات عن العادات فإن هذا يتميز به ما كان شرعياً وما كان طبعياً ، من الجبلة، يعني ما كان من جبلة الإنسان، نعم، وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) ، هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يحصل للعامل من عمله إلا ما نواه به، فإن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وليس هذا من باب التكرار ، (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فهذه ليست مكررة للجملة الأولى، كيف بيان ذلك؟ ؛ أن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيقاعه ، لإيجاده ، لوقوعه ، نعم ، الثانية لا ، دلت على أن ثواب العامل على عمله إنما هو بحسب نيته ، فإن كانت نيته صالحة فكذلك وإن كانت غير ذلك فنسأل الله العافية والسلامة فبحسب نيته الصالحة يحصل الثواب، وبحسب نيته الفاسدة يحصل العقاب، عياذا بالله من ذلك.
وهنا كما قلنا سابقاً تأتي مسألة وهي أن النية قد تكون مباحة، فيكون العمل مباحاً ، لا يحصل فيه ثواب ولا عقاب ، العمل في حد نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية ، والحامل عليه هو هذه النية التي اقتضت لوجوده ، فإن كانت صالحة صلح ، وإن كانت فاسدة فسد ، لكن هنا قد يكون العمل مباحاً لا علاقة له بشيء من الأحكام الشرعية تأكل ، تشرب ، تنام ، تروح عن نفسك ، الترويح الحلال الجائز ، نعم ، تمزح المزح الطيب المباح ، هذا كله مباح ، لكن قد تحوله النية الصالحة إلى ماذا؟ ، تحوله إلى ثواب، وقد تحوله النية الفاسدة إلى شر نسأل الله العافية والسلامة، فهذا يكون حينئذ عائد إلى هذه النية في ما عزم عليه ، فإن أراد بهذا اللهو التقوي والتروح على طاعة فيما بعد فإن هذا يحسب له ، وإن نوى به التقوي على ما؟ ، على معصية فإن هذا يحسب عليه ، مثله السفر تماماً نضرب له مثال بالسفر، السفر مباح ، السفر إذا سافرت سفراً مباحاً فأنت في حل، لكن هذا السفر قد يكون محرمًا عليك ، لماذا ؟ ، لأنك تسافر إلى هذه البلدة وإنما أردت أن تقع في كيت وكيت من المحرمات ، فهو محرم عليك لنيتك ، لا لكونه ايش؟ ، سفر ، فهذه النية التي رافقته لأجل كذا وكذا حرُم عليه السفر ، وهذا الذي يُقال فيه سفر معصية ، فهذا حينئذ يكون ايش؟ ، يكون محرماً يكون محرماً نسأل الله العافية والسلامة.
فالنية تدخل في جميع أبواب العلم والعمل ، فهذا الحديث قاعدة عظيمة وهو من أنفع القواعد ، إذ صلاح الأعمال كلها بدنية كانت أو مالية ، أعمال قلوب ، أو أعمال جوارح إنما هو عائد إلى النية ، وفسادها إنما هو عائد إلى النية ، ولذلك تحفظون في منظومة الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى: والنية شرط لسائر العمل بها الصلاح والفساد للعمل .
وقد صدرت طبعة جديدة مؤخراً عن دار البشائر وفيها تصويب في هذا البيت والتصويب غلط ، والصواب ما قاله الشيخ رحمه الله وإنما يحتاج فقط القارئ إلى الإشباع: والنية شرط لصحة العمل بها الصلاح والفساد للعمل عدلها إلى: ونيتنا شرط لصحة العمل وفيه ثقل وانكسار، فالصواب ما قاله الناظم في الأصل ، فداوى الصواب بالغلط وهكذا ، هذا يحتاج إلى تذوق شعري ومعرفة لعلم العروض فالنية إذًا لها مرتبتان، المرتبة الأولى تمييز العادة عن العبادة كما تقدم معنا، هذا تحصيل الكلام، تمييز العادة عن العبادة والمرتبة الثانية تمييز العبادات بعضها عن بعض ، فرض عن فرض، فرض عين عن نفل ، مطلق ونحو ذلك ، فهاتان مرتبتان من مراتب النية يحتاج إليها الإنسان حتى يميز في عاداته وعباداته ويُفرق بين هذا وبين هذا، والحديث في هذا الكلام كثير لكن أصله عائد إلى الذي ذكرنا ولعلنا بهذا القدر نكتفي وعنده نقف والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله واصحابه.