تحميل تفريغ : العلم وسائله وثماره – الشيخ الدكتور سليمان الرحيلي
الفوائد المنتقاة :
– يقول الله عز وجل : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، فالذين يخشون الله حق الخشية هم العلماء ، فالعلماء خشيتهم لله خشية كاملة ، لأن معرفتهم بالله عز وجل معرفة كاملة (ص : 6).
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} : ويقول الله عز وجل : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ، فالذين رزقهم الله عز وجل الايمان ، ورزقهم مع الايمان علماً ، يرفعهم الله عز وجل درجات في الدنيا والآخرة ، فهم أهل الرفعة والثناء ، وأهل الأجر العظيم ، وفي ذلك دلالة عظيمة ، على أن العلم في الإسلام إنما ينفع مع الايمان ، فمن جمع مع ايمانه علماً نفعه ذلك العلم ورفعه الله بذلك العلم درجات ، أما من خلا علمه عن الايمان فإن ذلك لا ينفعه ولا يرفعه ، وإنما يخفضه ويضعه، المصدر : (العلم وسائله وثماره ص6).
{ يقول الله تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} استفهام استنكاري ، قل يا محمد لهؤلاء المعاندين هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون قل ذلك منكراً عليهم ، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟، في ميزان العقل ؟، في ميزان العقلاء ؟، في ميزان الشرع ؟، في ميزان العلم ؟، لا والله لا يستوون ابداً ، وقد خاب وخسر من ظن أن العلماء يساويهم غيرهم ، وأن الذين لا يعلمون وإن زعموا أنهم دعاة ، أو زعموا أنهم وأنهم ، أنهم يساوون العلماء ، فضلاً عن أن يفضلوهم ، فقد خاب وخسر وخالف العقل والنقل }. – المصدر : (العلم وسائله وثمراته ص: 7)من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة / – ويقول النبي ﷺ في حديث عظيم , بين فيه فضل العلم ابتداء وانتهاء , بين فيه فضل العلم اولاً وآخراً، يقول ﷺ : {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء ما ورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحض وافر} رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وابن حبان ، يبين النبي ﷺ فضل طلب العلم , عند الطلب وفضل العلم عند تحصيله . (من سلك طريقاً) من ترك بيته وأهله وترك راحته , وسلك طريقا , عن ماذا يبحث ؟ ، (يلتمس فيه علماً) وفي هذا دلالة أيه الأخوة على أن العلم يلتمس ويطلب , وأن العلم إنما يحصل ببذل الأسباب . (يلتمس علمًا سهل الله له طريقاً إلى الجنة) قال العلماء : يسهل الله له طريقاً إلى الجنة بأمرين : الأمر الأول : أن العلم بذاته من طرق الجنة ، فمن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً فقد سار في طريق من طرق الجنة ، التي توصل إلى الجنة . والأمر الثاني : أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له العبادة ، ويسر له العبادة ، فكان في طريق العبادة من السابقين ، ولذا يقول بعض مشايخنا : إذا أردت أن تعرف شأنك في الإخلاص بالعلم فانظر إلى شأنك في العبادة ، فمن كان مخلصاً في طلب العلم يسر الله له طرق الجنة ، ومن طرق الجنة العبادة . (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) الملائكة الذين خلقهم الله عز وجل للطاعة ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون لا يحبون إلا طاعة من الطاعات ، الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم تواضعاً له ، لا لأنه حكيم ، ولا لأنه ذكي ، ولا لأنه شريف ، ولا لأنه ذو مال ، وإنما (رضا بما يصنع) لأنها تعلم فضل العلم عند الله – عز وجل – ، فتتواضع لطالب العلم رضاً بما يصنع ، كل ذلك فضل لطالب العلم عند الطلب ، وهو لازال في طريقه إلى الطلب ، أما إذا حصل العلم فذاك فضل آخر ، وشأن آخر وعلاً مابعده علاً . (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض) كل من في السماوات ومن في الأرض يستغفرون للعالم ، والله – عز وجل – يصلي على العالم ويذكره بخير في الملإ الأعلى ، (حتى الحيتان في الماء) حتى دواب الأرض ، حتى الحيتان في البحار تستغفر للعالم . (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) وهذا التفضيل جرى على سنن الناس في تفضيل القمر على سائر الكواكب ، فالناس يرون أن القمر أفضل الكواكب ، فكذلك العالم فضله على العابد بلا علم ، كفضل القمر على سائر الكواكب . (وإن العلماء ورثة الأنبياء) فالعلماء هم أقرب الناس إلى الأنبياء إذا مات ابن آدم إنما يرثه الورثه ويحجب الأقرب منهم الأبعد ، فإذا مات الأنبياء ورثهم العلماء ، فالعلماء هم أقرب الناس إلى الأنبياء . أهل الحديث هم آل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا يأخذون علمهم عن الأنبياء ، وهم القريبون منهم حقاً وصدقاً . (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً) فإن تلك الأمور تزول وتفنى ، وإنما ورثوا علماً يرفع ويبقى ، فمن أخذ من العلم نصيباً ، فقد أخذ من ميراث النبوة نصيباً وافراً ، إنه فضل عظيم . (العلم وسائله وثماره ص : 7)طلب العلم في المساجد هو رأس العبادات وبَيَّنَ النبي ﷺ أن طلب العلم في المساجد ، هو من رأس العبادات؛ فإنَّا نعلم أن ذروة سنام الإسلام هو الجهاد، وقد قال النبي ﷺ : (مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا، لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرِ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ) (رواه ابن ماجه (227)، وصححه الألباني على شرط مسلم، كما في «الثمر المستطاب » (ص 526))، وهذا خاص بمسجد رسول الله ﷺ، وأما بقية المساجد فمن قصدها لطلب العلم فله أجر حَجٍّ تامٍّ ، والْحَجُ الْمَبْرُورُ ليس له جزاء إلا الجنة، يقول النبي ﷺ : (مَنْ غَدًا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ؛ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامّاً حَجَّتُهُ) (رواه الحاكم (169/1) ، والطبراني في المعجم الكبير (7473)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب» (201): حسن صحيح)، فمن جاء إلى مسجد، لا يقصد من هذا إلا أن يتعلم علماً، أو يُعَلِّمَ علماً؛ فَلْيُبشر بالخير العظيم، والثواب الجزيل؛ فأجره إنما هو أجر من قصد مكة بِحَجٍّ تامٍّ، وما أعظم ذلك الأجر . (العلم وسائله وثماره ص11).أمور بينها النبي ﷺ ينتفع بها طالب العلم وقد بين النبي ﷺ أن كل ما في الدنيا لا خير فيه، إلا ما استثنى، فقال ﷺ: (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالاهُ، أَوْ عَالِمٌ، أَوْ مُتَعَلَّم) (رواه الترمذي (۲۳۲۲) وابن ماجه (٤١۱۲)، وقال الترمذي: حسن غريب»، وحسنه الألباني في الصحيحة» (۲۷۹۷) . ففضل العلم في الإسلام فضل عظيمٌ ، ولا شك أن المسلم إذا سمع هذه الفضائل سَيَتَحَرَّكُ قلبه، وتعلو هِمَّتُهُ، وتنشط نفسه لتحصيل العلم، فينبغي عليه – إذا حصّل ذلك – أن يُحَصَّنَ نفسه بالحُصُونِ الشرعية، التي جعلها الشرع تحصيناً لطالب العلم في طريقه ، وإن من أهم ذلك وأعلاه أن يكون طالب العلم مخلصًا لله – عزوجل – في طلبه العلم، لا يبتغي من ذلك إلا وجه الله عَزَّوَجَلَّ، يريد أن ينفع نفسه، يريد أن ينفع أمته، يريد أن يتعلم الخير ، يريد أن ينشر الخير، يبتغي بذلك وجه الله عزوجل، فإن من قصد ذلك، حَصَّلَ الأجور الوفيرة، والخير العميم. يقول النبي ﷺ : «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (رواه البخاري ومسلم) . وقد حَذَرَ النبي ﷺ أيما تحذير من اتخاذ العلم مَطيَّةٌ للدنيا ، وبين ﷺ أن حُسْنَ النَّيَّةِ في طلب العلم أمرٌ عظيم، وخطره جسيم، فَصَح عنه ﷺ أنه قال: (أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عليه وذكر ثلاثة رجال، ومنهم: «وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، قَالَ: فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَما عَمِلْتَ فِيهَا؟، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَإِنَّمَا تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِيِّ، وَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (رواه مسلم (۱۹۰۵)). فإن من أعظم الفتن – أيها الإخوة الأفاضل – أن يقصد طالب العلم بطلبه العلم أن يُحصل لقباً دنيوياً، أن يوصف بوصف دنيوي، أن يقال: سيدنا العالم ومولانا القارئ، فضيلة الشيخ المُقْرِئ الدكتور الأستاذ..، ألقاب من الدنيا ، إذا من أخطر ما يكون على طالب العلم أن يكون غرضه من طلب العلم مثل هذا؛ فإن مثل هذا الرجل مِن أوّل من تُسَعّرُ بهم النار يوم القيامة – عياذاً بالله من مثل هذا -. وقد حذر النبي ﷺ من أن يقصد المسلم بطلبه العلم شيئًا من عَرَض الدنيا الزائلة، فقال ﷺ: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا بِمَا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؛ لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( رواه أحمد (٨٤٥٧)، وأبو داود (٣٦٦٤) ، وابن ماجه (۲۵۲)، وابن حبان (۷۸)، والحاكم (١ / ١٦٠) وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (۷۸) ، فمن تعلم العلم الشرعي، لا يقصد من تعلمه إلا أن يصيب عَرَضًا من الدنيا؛ أن يصيب مالاً، أو نَحْوَهُ من الأعراض الزائلة؛ فمصيرُهُ أنه لن يَجِدَ رائحة الجنة يوم القيامة، وقد جاء في الآثار الصحيحة أن رائحة الجنة توجد على مسيرة كذا وكذا (كما في صحيح مسلم (۲۱۲۸) ، وروى البخاري (۳۱٦٦) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ، عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ بَرحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا). فليحذر طالب العلم أيما حذر من أن يقصد بطلبه العلم شيئًا من أعراض الدنيا الزائلة، وقد بَيَّنَ النبي ﷺ – مُحَذَّرًا – بعضًا من مفاسد النيَّات في طلب العلم، وهي مفاسد تدخل على القلوب فمنها : أن يقصد طالب العلم بطلبه العلم أن يكون مع العلماء ليجاريهم، وأن يحضر مجالسهم، وأن يتحدث بحديثهم، أو ليماري السفهاء؛ فيكون غالبًا لهم منتصرًا في الدنيا، أو يَتَخَيَّر المجالس، فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ» (رواه الترمذي (٢٦٥٤)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب» (٢٥/١): صحيح لغيره) ، وقال ﷺ : (لا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَالنَّارُ النَّارُ » (رواه ابن ماجه (۲٥٤)، وابن حبان (۷۷)، وقال الألباني في التعليقات الحسان» (۷۷) : (صحيح لغيره) ، وفي ذلك وعيد شديد، وزجر عظيم؛ فينبغي على طالب العلم أن يتفقد نفسه، وأن يتفقد قلبه، وأن ينظر في حاله؛ فإن وجد أنه على خير في طلبه؛ فليحمد الله عَزَوَجَلَّ على ذلك، وليسأل الله الثبات؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء (كما ثبت في مسلم (٢٦٥٤)، والترمذي (٢١٤٠) وغيرهما) ، وإن وجد غير ذلك، وجد خللاً في نيته؛ فما الذي يصنعه؟ ، بعض طلبة العلم يأتيهم الشيطان، وَيُوَسْوِسُ إليهم إذا سمعوا مثل هذه النصوص، فيقول: ويحكم إلى أين تذهبون؟، ألا تسمعون؟!، إنها جهنم، إنها النار، ألا تفرون من النار؟، إنها حلقات تذهبون إليها، وفي أنفسكم خلل، وهذا يقودكم إلى النار؛ ففروا من هذه النار، إني لكم ناصح أمين!، وهكذا حال إبليس لا يأتي ابن آدم إلا في صورة الناصح الأمين، وهو خَوَّانٌ كَذُوبٌ، فبعض طلبة العلم إذا سمع مثل هذه النصوص وجاءه الشيطان مُوَسْوِسًا وَمُزَخْرِفًا؛ انصرف عن طلب العلم، وقال: ما لي وللعلم؟، أبحث عن أمر آخر أكون به من الناجين وفي هذا خسران مبين، وفي ذلك طاعة للشيطان؛ فإن الشيطان حريص على أن يفشو الجهل، وأن تُظْلِمَ قلوبُ الناس من العلم ؛ لأنه لا تقوم سوق الشيطان، إلا إذا قام الجهل على سُوقِهِ، وصنيع هؤلاء الطلبة لا ينبغي ؛ وإنما الذي ينبغي لطالب العلم، إذا وجد في نفسه خللاً في نيَّته، أن يحرص أَيَّما حرص على تَحْسِينِ نيته؛ بأن يبحث عن الوسائل المعينة على إصلاح نيَّته، وأن يجتهد في طلب الإخلاص، وأن يعلم أن طلب الإخلاص شديد، وأنه يحتاج إلى صبر عريض، وأنه يحتاج إلى معالجة شديدة، يسأل الله عزوجل الإخلاص في سجوده، وفي كل أحواله، يسأل الله عزوجل أن يُخَلَّصه من الشر، وأن يرزقه الخير، وأن يُلْحِقَهُ بِرَكْبِ المُخلِصين، ويجتهد في العبادة، ويجتهد في العمل؛ فإن العبادة سبب لزيادة الإيمان، وإذا زاد إيمان العبد رَق قلبه، وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَقَرُبَ مِن رَبِّهِ ؛ فكاد أن يكون لله مُخْلِصًا في طلبه، فينبغي – أيها الإخوة – أن نكون صادقين، ساعين في طلب الإخلاص. والناس في هذا الأمر على أحوال – فمنهم من إذا وجد في نفسه خللاً في طلبه؛ فرّ من الساحة وهرب، ولا شك أن ذلك خطأ عظيم. – ومنهم من إذا رأى في نفسه خللاً في طلبه؛ رضي بما هو فيه، وَلَمْ يُحَرِّك ساكناً، ولم يتحرك قلبه، وَلَمْ يَخَفْ على نفسه، ولا شك أن ذلك تهاون عظيم، وفيه شر عظيم. – ومن الناس من إذا وجد في نفسه خللاً ؛ تَحَرَّكَ قَلْبُهُ، وخاف من ربه وسعى في طلب الإخلاص سعيًا حثيثاً، ومن كان هذا حاله؛ فليبشر بخير عظيم فإنه ما دام صادقًا في ذلك؛ فوالله لن يَخْذُلَهُ الله، وإنه في خير عظيم، وليستمر على ذلك، وليصبر، وسيجد حلاوة ذلك – ولا بُدَّ – في طريقه، أما الأمر الثاني من الأمور التي حَصَّن بها النبي ﷺ طالب العلم في طريق طلبه العلم؛ فهو : العمل بما يَعْلَم، فلا بد لطالب العلم، إذا علم علماً، أن يعمل يه؛ فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِيَ عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نارِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَؤُونَ كِتَابَ اللهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ )( رواه البيهقي في شعب الإيمان (٤٦١٣) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير) (۱۲۹) . يتعلمون القرآن ولا يعملون به، وقد كان السلف الصالح يخافون من هذا خوفاً عظيماً، وكان أبو الدَّرْدَاءِ رَضَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: (إن أخشى ما أخشى من ربي القيامة أن يناديني على رؤوس الخلائق يا عُوَيْمِرُ! ، فأقول: لبيك ربي، فيقول: ماذا عملت فيما علمت؟!» (رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق (1/13،14) و (۲ /۹۳) ، وابن أبي شيبة في (المصنف) (۱۱۲/۷ و ۲۷۵)، وأحمد في (الزهد) (۷۳۱ – محمد عبد السلام)، والدارمي (۲۷۰ – المغني) ، وأبو داود في (الزهده) (٢٤٩)، ومحمد بن نصر المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) (٨٤٩)، وأبو نعيم في (الحلية) (۲۱۳/۱)، والبيهقي في (المدخل إلى السنن) (٤٨٩) و (٤٩٢)، والخطيب البغدادي في (اقتضاء العلم العمل) (٥٤) و (٥٥) و (٥٦). وقد أخبر النبي ﷺ أنه: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّىٰ يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فيمَ أَبْلَاهُ)( رواه الترمذي (٢٧١٤) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب» (٣٠/١). فأنت – يا طالب العلم – مسؤول يوم القيامة بين يدي ربِّك، عندما يُكَلِّمُ الله عَزَّوَجَلَّ المخلوق ، ليس بينه وبينه تَرْجُمَان، مسؤول بين يدي الله عَزَّوَجَلَّ عن علمك ماذا عملت فيه، فلا بُدَّ في العلم من العمل، هذه – أيها الإخوة – أمور قد بينها النبي ع ﷺ ينتفع بها طالب العلم في سيره إلى الله عَزَّوَجَلَّ بهذه الفضيلة العظيمة، وهذه المكرمة العظيمة ، التي هي طلب العلم (ص12). من وسائل تحصيل العلم : تقوى الله عزوجل / وإن من وسائل تحصيل العلم : تقوى الله عزوجل : ولا شك أن تقوى الله هي سببٌ لِكُلِّ خير، وثمارها عظيمة جدًّا على العبد، كيف لا وهي وصيَّة الله عزوجل للأولين والآخرين (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) وصية الله عزوجل للأنبياء جميعاً، وهي وصيَّةُ الله للناس جميعًا، وهي وصيَّة الله للمؤمنين جميعًا، وهي وصية رسول الله ﷺ للمؤمنين؛ فقد كان كثيرًا ما يوصي ﷺ : بتقوى الله، وهي وصية السلف الصالح؛ فقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – لا يبدؤون كتاباً يوصون فيه، ولا يوصون وَصِيَّة، إلا وبدؤوها بالوصية بتقوى الله؛ لأن تقوى الله عزوجل جِمَاعُ كُلِّ خير، وتقوى الله هي : العمل بطاعة الله عزوجل على نُورٍ من الله؛ ترجو ثواب الله، وهي تَرْكُ معصية الله على نُورٍ من الله؛ تخشى عقاب الله، تقوى الله : أن يراك الله عزوجل حيث أمرك، وأن لا يراك حيث نهاك، تقوى الله أن تترك الذنوب جميعاً . خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها وَكَبيرَها فَهوَ التُقى كُن فَوقَ ماشٍ فَوقَ أَر ضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى هذه الأبيات لابن المعتز كما في تفسير ابن كثيره (164/1 – طيبة). ولا شَكٍّ أن تقوى الله عزوجل سبب لتحصيل العلم؛ يقول الله عزوجل : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة: 282] ، ولا شك أن الالتزام بالواجبات، وترك المعاصي، سَبَب لتثبيت العلم بعد تحصيله ؛ ولذلك لما شكا الإمام الشافعي إلى وكيع سُوءَ حِفْظِهِ – وسوء الحفظ عنه بعيد – ؛ فهو من أشد الناس حفظاً، لكنه يرى نفسه سيئ الحفظ، ومن ذلك: أنه كان يُحقِّر نفسه، فشكا إلى وكيع سوء حفظه فأرشده إلى ترك المعاصي، فنظم في ذلك أبياتاً، فقال: شَكَوْتُ إِلَى وَكِيع سُوءَ حِفْظِي فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي وَأَخْبَرَنِي بَانُ الْعِلْمَ نُورٌ وَنُورُ اللهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِي (ديوان الشافعي ص54/ الزعبي) ، و «الجواب الكافي» لابن القيم (ص52/المعرفة))، وفي رواية : (وَقَالَ: اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ وَنُورُ اللهِ لَا يُهْدَى لِعَاصِي) (انظر «منهاج التأسيس والتقديس» لعبد اللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ص105/الهداية)) فلا بد – أيُّها الأحبَّة – أن نُخَلِّصَ أنفسنا من معصية الله؛ إن أردنا أن يُوَفِّقَنَا الله عزوجل في طلب العلم، وأن يُبَسِّرَ الله عزوجل لنا طرق العلم، وأن يُثَبِّتَ الله عزوجل العلم في أنفسنا (العلم وسائله وثماره ص18).