فمن أول ما يجب على الأئمة والسلاطين المسلمين، يجب عليهم أن يقيموا دين الله بين الناس ، إقامة الدين ، وذلك بالمحافظة عليه ، بإظهار التوحيد الذي هو أعظم أمر، والنهي عن الشرك الذي هو أعظم منهي عنه، حث الناس على دين الله الحق، على الإخلاص لله – تبارك وتعالى- في الدين، والمتابعة لسيد المرسلين نبينا محمد ﷺ ونهيهم لكل من يخالف في هذا الباب عن المنكرات، وأعظم المنكرات الشرك الذي نهى الله عنه، فمما يجب على ولاة أمور المسلمين أن يحققوا التوحيد بين المسلمين؛ توحيد العبادة الذي خلق الله العباد لأجله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} {57} (سورة الذاريات) ، وينهونهم عن أعظم المنكرات وهو الشرك بالله -جل وعلا- أكبر الكبائر على الإطلاق أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، فيأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر.
ومما يجب عليهم أيضًا أن يطبقوا شرع الله – تبارك وتعالى – على العباد، وأن يحكموا بينهم بما أنزل الله -جل وعلا- ، قال ربنا -جل وعلا- لنبينا محمد ﷺ :
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ} (سورة المائدة).
فيجب على إمام المسلمين، وأئمة المسلمين أن يطبقوا شرع الله – جل وعلا- في العباد، ليستقيم العباد وتصلح البلاد،
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (سورة الحج : 41).
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (سورة النور : 55).
هذا وعد من الله – تبارك وتعالى – ؛ فالاستخلاف والتمكين لا يكون إلا بإقامة دين الله ، وتطبيق شرعه -سبحانه وتعالى – بين الناس ، وشرع الله – جل وعز – هو الذي يصلح العباد والبلاد ، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ} (سورة الأعراف : 54) ، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (سورة الملك : 14) ، هو الذي خلقنا – سبحانه وتعالى – ، ويعلم ما يصلحنا في حياتنا ويسعدنا في معادنا -جل وعلا- ؛ فالذهاب إلى الغرب والشرق ، والتماس القوانين الوضعية منهم ، التي هي في الحقيقة نحاتة أفكارهم، وزبالات أذهانهم، كلما جاءت مدة غيروا فيها وبدلوا، هذا لا يعز به أهل الإسلام، إنما العزة في تحكيم شرع الله -تبارك وتعالى-، وتطبيقه ، فيجب على ولاة أمور المسلمين أن يطبقوا شرع الله على العباد، وأن يحكموا بينهم بما أنزل الله ، كما قال- جل وعلا- :
{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّه} ، فهذا ثاني أمر يجب على أئمة المسلمين أن يطبقوه في الرعية.
والثالث : العدل، يجب على حكام المسلمين أن يقيموا العدل بين الناس، وأن يجعلوا الناس عندهم في ذات الله سواء ، لا فرق لشريف على وضيع ، ولا لكبير على حقير، ولا لغني على فقير ، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود، ولا لأحمر على أصفر، الناس كلهم في دين الله سواء.
الناس من جهة التمثيل أكفاءُ أبوهم آدم والأم حواءُ
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ } (سورة الحجرات : 13) ، فيقيموا بين الناس بالعدل ، والمساواة بينهم في الحقوق ، فلا يبخسوا أحدًا حقًا أوجبه الله -جل وعلا- له عليهم، كما قال -جل وعلا-: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ}(سورة النساء : 58).
فلا بد من إقامة العدل، والله -جل وعلا- يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة !، ويديل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة ، لو كان هذا حاكم مسلم وهو ظالم لا يدوم ملكه ، فبالعدل تقوم الدول ، وتبقى الدول ، وبالعدل يتآلف الناس، وبالعدل يُنتصف للضعيف من القوي، وللفقير من الغني، وللوضيع من الشريف، فالناس کلهم أمام السلطان في دين الله – تبارك وتعالى – سواء.
فإذا قام العدل انبعثت الحياة، وتحركت، ونشط الناس، وعمرت الأوطان ، العمارة الحسية والمعنوية ، أما إذا حل الظلم واختفى العدل ، فحينئذ قُل على هذه الأمة السلام !، فكل واحد لا يفكر إلا في حماية نفسه، فلا يأمن على نفسه بحال من الأحوال ، فهو ساع طيلة عمره في الحفاظ على نفسه وممتلکه، لا يسعىٰ ولا ينشط في إعمار ولا بناء؛ لأنه يخاف، وإذا حل الخوف أحجم الناس وتأخرت الحركة، وتعطلت النهضة الدينية والدنيوية؛ فيجب على رعاة المسلمين وحكام المسلمين أن يقوموا بهذا غاية القيام، والنبي ﷺ يقول: «إنما أهلك من كان قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، ويم الله لو أن فاطمة بنت محمد – رضي الله عنها وأرضاها- سرقت -وحاشاها- لقطعت يدها» أتشفع في حد من حدود الله؟! يقوله لمن ؟ لأسامة ؛ لأن قريشًا كلها تهيَّبت في أمر المخزومية ، التي سرقت المتاع أو كانت تسرق المتاع ، قالوا من يجرؤ على غضب رسول الله -ﷺ – اليوم ؟! ، لا يجرؤ عليه إلا حِبُّه وابن حِبِّه، فوَسَّطوا أسامة -رضي الله عنه – الذي يحبه – عليه الصلاة والسلام – ، فكلَّمه ، فغضب -ﷺ – غضبًا شديدًا ، ثم قال له : أتشفع في حد من حدود الله ؟! ، أتشفع في حد من حدود الله ؟! ، مغضبًا -صلوات الله وسلامه عليه – ، ثم قال هذه المقالة.
فإذًا إقامة الأحكام الشرعية، والعدل فيها بين الرعية، والمساواة فيها بين الكبير والصغير، والشريف والحقير، والوضيع والكبير، هذا هو الصحيح ، وهو الذي به تسعد الحياة، فلا يُنظر إلى الناس في هذا الجانب من باب مكانتهم الاجتماعية، ولا لأحسابهم، ولا لأنسابهم، وإنما يُنظر إليهم على أنهم سواسية كأسنان المشط أمام شرع الله – تبارك وتعالى -، فيطبق حکم الله على الجميع ، وإذا كان كذلك أمن الناس وسعدوا في حياتهم، والتفوا على هؤلاء الولاة الذين هم بهذه الصفة، لا يفرقون بين الناس في هذا الجانب.
ومما يجب أيضًا على الراعي في هذا الباب أن يحفظ البلاد، وذلك بحفظ ثغورها، و حدودها ، وإقامة من يحرسها، وأن يُكثر في ذلك العدد والعُدد التي يحصل بها إرهاب العدو المتربص ؛ فإذا همَّ ، أو فكَّر أعداء الإسلام في وقت من الأوقات ، في أن يغزوا ديار الإسلام ، ويستبيحوا بيضة المسلمين،
كان لهم أهل الإسلام بالمرصاد، فلا ينفذ هؤلاء الأعداء إلى بلاد المسلمين ، فيحصل ماذا ؟ ، يحصل الأمن والاطمئنان كما قال -جل وعلا-: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ} (سورة النور : 56).
وحصول الأمن يحصل بهذا ، ويحصل أيضًا بشيء آخر، ألا وهو : إقامة العسس في بلدان المسلمين، داخل بلاد المسلمين، فيما بين المسلمين، وإقامة الجند الذين يحرسون السبل السابلة التي فيها المسافرون ؛ فيخاف قطاع الطرق، ويأمن الناس ، وتقوم الحياة ، فيُحَج البيت ، وتدخل التجارات، وتتوافد الأرزاق، ويفد التجار من كل مكان ؛ لأنهم قد علموا أن هذه الدار دار أمان، فتأمين السبل في الداخل وحفظ الأمن فيها ، هذا من واجب الرعاة والحكام ، فيطمئن الرعية بذلك، فأنتم ونحن جميعًا ننام بملء جفوننا، أقرَّ ما تكون عيوننا ، مطمئنين يدخل أحدنا داره وأغلق بابه ، في غاية من الأمن والأمان، ولكن من أقامهم السلطان في هذا الباب لا ينامون ، يسهرون على راحة المسلمين، على تأمين المسلمين ، فهذه من أعظم النعم والله !، وكثير منا ربما لا يحس بها، لكن أدعو أحبتي وإخواني ممن حضر أو يستمع هذا الكلام ويصل إليه ، أن يعتبر بأحوال البلدان المجاورة ، لا يهنئون بنوم، ولا يهنئون بعيش، ولا يهنئون بإقامة أبدًا، حالهم خوف ، ووضعهم جوع، وبيوتهم قلق، النار ترسل عليهم دائمًا وأبدًا، يذهب رب الأسرة ولا يعود ، ويذهب بعض الأولاد والأطفال خارجًا من بيته يلعب فلا يعود، وربما ذهب إلى الدرس فلا يعود ، يذهب الابن إلى المسجد فلا يرجع، بسبب ماذا؟ ، بسبب انفلات الأمن، فنحن في نعمة من الله – تبارك وتعالى – عظيمة، وهذا من واجب الولاة ، فيجب عليهم أن يقوموا به ليسعد الناس ، لأن الشبَع لا يمكن أن يُتلذذ به مع الخوف أبدًا، والمال لا قيمة له مع الخوف ، يصبح عليك هماً وغمًا، كل همك في كيف تحفظ هذا المال الذي معك من اللصوص، من المعتدين ، فأصبح هذا المال همًا وغمًا ونقمة عليك، فبدل أن تتمتع به ، تشقىٰ به في حراستك إياه من هؤلاء ، عند انعدام الأمن وانفلات أزمة الأمور.
وأما مع الأمن فلا، الواحد معه عشرات الآلاف ومئات الآلاف يسافر بها لا يعترضه أحد ، لأنه يعلم أنه إن سرق قطعت يده، وإن حارب وقطع السبيل طُبق عليه حد الحرابة، البغاة الذين يفسدون في الأرض – نسأل الله العافية والسلامة – ، فيتهيب الناس ـ فيأمن حينئذ أهل الإسلام ، فلا بد من ذلك.
هذه أهم الأمور التي يجب أن يقوم بها الرعاة سلاطين المسلمين، وإلا فقد ذكر العلماء أكثر من ذلك ، من أراد المراجعة فليرجع مثلاً إلى كتاب “الأحكام السلطانية لأبي يعلى الحنبلي” ، “والأحكام السلطانية للماوردي”
وهكذا كتب الفقه التي تكلمت على هذا الجانب، والكتب التي تكلمت عما يتعلق بالسلطان ، کسراج الملوك للطرطوشي ، ونحوه من الكتب التي تكلمت في هذا ؛ فقد ذكر القاضي أبي يعلى -رحمه الله – في الأحكام السلطانية عشرة أمور تجب على السلطان ، على الراعي لرعيته، ومنها ما ذكرنا ، حفظ الدين، وتنفيذ الأحكام، وحماية بيضة الإسلام بحماية حدود بلاد المسلمين، وإقامة الحدود، وتحصين الثغور، وجهاد من حارب أهل الإسلام ومن عاند الإسلام بعد دعوته إلى الإسلام وامتناعه، وهكذا أيضًا إقامة الزكاة فيهم بجِبايَتها ، وأخذها من أغنيائهم ، وردها على فقرائهم، كما أمر النبي -ﷺ – معاذًا حينما بعثه -رضي الله عنه- إلى اليمن ، في حديثه المشهور، وقال له بعد الصلاة : (فإن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم) ، فهذا مما يجب على السلطان ، أن يقيمه يأخذ الزكوات من الأغنياء ويعيدها في الفقراء ، فيعم المجتمع الغنى ، وسد الفقر، ورفع الفقر، بل ويحصل لهم – إن شاء الله – الخير الكثير، ولو قام الناس بهذا حق القيام ما وجد بين المسلمين فقير، ولكن الناس يُفرطون في ذلك فيحتاجون إلى الأئمة ، ليقوموا بتطبيق هذه الشعيرة.
وهكذا أيضًا مما يجب لنا نحن معاشر الرعية على الرعاة، على السلاطين على الولاة ، أن يقوموا فينا بتقدير العطاء ، يُعطوا المسلمين من بيت المال ما يحفظهم، ويسد حاجتهم وخلَّتهم وفقرهم ، وهذا ما ترونه مثاله هنا التقاعد، مصلحة التقاعد لمن تقاعد، ومصلحة الضمان لمن لم يكن عاملاً ، من امرأة عاجز، أو رجل كبير عاجز، أو معوق أو معطَّل ، فهؤلاء لهم حق في بيت المال ، يجرى عليهم من الرزق ما يحفظ كرامتهم وماء وجوههم، ولا يعرضهم لمذلة السؤال ، فيقومون بتقدير العطاء، الأسرة إذا كانت كذا تستحق كذا، والفرد إذا كان كذا يستحق كذا ، فيعطىٰ من بيت المال ما يستحقه الناس، هذا مما يجب على الراعي، مما يجب على سلاطين المسلمين أن يقوموا به في الناس.
وأيضاً أن ينصِّبوا عليهم من يقوم بتصريف أمورهم ، كالأمراء والولاة في المناطق، وكالقضاة للأحكام ، وكرجال الحسبة ليحتسبوا ويقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهكذا الأجناد ليقوموا بحماية الطرق والسبل، وهكذا السجون التي يُمْسَك فيها أهل الفساد والشر والريَب والإجرام، فيكفوهم عن مجتمع المسلمين ، ويقلدوا من يقوم بمثل هذه الأعمال.
وأيضًا بعد ذلك كله ، يتابعون هذا بأنفسهم، فلا يدعونه ويغفلون عنه ويوكلون أمره إيكالاً كاملاً ، لا يراجعون من ولوه، ولا يتابعون من نصبوه، ولا يتفقدون من عيَّنوه على المسلمين بل لا بد من متابعتهم ، فيشرف السلطان والراعي، أئمة المسلمين يشرفون على الأمور، ولا يتشاغلون عن ذلك بلذة العيش، فيتسلط من دونهم ممن ولوهم الولايات الصغيرة الجزئية على المسلمين ، فيتعبونهم ، ويرهقونهم، ويخيفونهم، ونحو ذلك.
وقد كان الخلفاء فيما سبق يتفقدون عمالهم، ويحاسبونهم محاسبة شديدة ؛ فإذا شعر هؤلاء العمال بمتابعة الوالي لهم ، فإنهم سيسيرون في الناس السيرة الحسنة، ويقومون فيهم القيام الواجب الذي ائتمنهم عليه أئمة الإسلام، أما إذا ترك لهم الحبل على الغارب، ولم يتابعوا ويُفتش عليهم، فإن البلاء قد يأتي والسلطان في غفلة، وما يحس إلا وقد انتقضت عليه الأمور – نسأل الله العافية والسلامة .
فهذه “العشرة” ملخصة ذكرها القاضي -رحمه الله – في الأحكام السلطانية ؛ فمن أراد أن يراجع بسطها فإنه سيجدها هناك، ونحن ذكرناها وذكرنا الخمسة أو الستة الأولى منها لأهميتها وهناك أمور أخرى غير هذه، لكن هذه هي الجامعة، هي الكبيرة الشهيرة، التي يجب على السلطان القيام بها.