1- شرح حديث إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى

عدد الملفات المرفوعه : 3

1 – عَنْ أَميرِ الْمُؤْمِنِينَ أبي حفْصٍ عُمرَ بنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – قالَ: سمعْتُ رسُولَ اللهِ ﷺ يقُولُ: (إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى، فمنْ كانَتْ هجْرَتُهُ إِلَى الله ورَسُولِهِ فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ، ومنْ كاَنْت هجْرَتُه لدُنْيَا يُصيبُها، أَو امرَأَةٍ يَنْكحُها فهْجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَر إليْهِ) متَّفَقٌ عَلَى صحَّتِه.

رواهُ إِماما المُحَدِّثِين: أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعيل بْن إِبْراهيمَ بْن الْمُغيرة بْن برْدزْبَهْ الْجُعْفِيُّ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو الحُسَيْنِى مُسْلمُ بْن الْحَجَّاجِ بْنِ مُسلمٍ القُشَيْريُّ النَّيْسَابُوريُّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي صَحيحيهِما اللَّذَيْنِ هما أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَة.


‏وهذا الحديث حديث عمر بن الخطاب‏ هو أول حديث أورده الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه رياض الصالحين ، وكذلكم هو أول حديث أورده -رحمه الله تعالى- في كتابه الأربعين النووية ، وكذلكم في ‏كتابه المجموع شرح المهذب عقد فصلًا في الإخلاص وإحضار النية أورد فيه ثلاث آيات ثم أورد هذا الحديث حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهذا الصنيع من هذا الإمام بالبدء بهذا ‏ الحديث له نظائر ‏قبله عند أئمة أهل العلم مثل الإمام البخاري -رحمه الله- افتتح كتابه الصحيح بحديث : (إنما الأعمال بالنيات) ، والإمام البغوي افتتح كتاب مصابيح السنة ‏، وشرح السنة بهذا الحديث ، كذلكم الإمام عبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام بهذا الحديث ، وغيرهم من أهل العلم‏ ، والبدء بهذا الحديث فيه التنبيه لأهمية إحضار النية ، وأن النية أساس تقام عليه الأعمال ، وأصلا يبني عليه الدين ، ولهذا فإن شأن هذا الحديث شأن عظيم ، ومكانته علية ، ‏وهو يدخل في جميع أبواب الفقه ؛ كل باب من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث ، ولهذا نقل عن الإمام الشافعي – رحمه الله – أنه قال : (يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه) فالنيه يحتاج إليها في الصلاة ، يحتاج إليها في الصيام ، يحتاج إليها في الحج ، يحتاج إليها في جميع الطاعات والعبادات ، بل إن الأمور المباحات ‏بالنية الصالحة تتحول إلى عمل صالح يثاب عليه العبد ، وقد قال : أهل العلم ‏إن مدار الإسلام على هذا الحديث ، وقد قال بعض أهل العلم عن هذا الحديث : (هو ثلث ‏العلم ‏وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام) ؛ فالشاهد أن هذا الحديث حديث عظيم جليل القدر عظيم الأهمية ينبغي أن ‏يعنى به كل مسلم حفظًا وفهمًا وتحقيقًا لما دعا إليه من إصلاح النية وهي إطابة المقصد ، وقد نقل عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه قال : (أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر (الأعمال بالنيات) ، وحديث عائشة : (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ) ، وحديث النعمان بن بشير (الحلال بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات) ، وإنما كانت أصول الإسلام تدور على هذه الأحاديث الثلاثة ‏؛ لأن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات ، وترك المحظورات ، والتوقف عن الشبهات ، وهذا تضمنه حديث النعمان ثم ذلكم لا يتم إلا بأمرين أحدهما : أن يكون العمل في ظاهره موافقًا للسنة ، وهذا تضمنه حديث عائشة (من أحدث في أمرنا ‏ما ليس منه فهو ردّ) ، والثاني أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه الله ، وهذا تضمنه حديث عمر بن الخطاب (إنما الأعمال بالنيات) ، وقوله ﷺ في هذا الحديث (إنما الأعمال بالنيات) أي : الأعمال معتبرة بنيتها ‏؛ فإذا كانت النية صالحة صحيحة ؛ فإن العمل يُتقبل من العامل ويثاب عليه ، وإذا كانت النية فاسدة رُدَّ عليه عمله ؛ فالأعمال معتبرة بنيتها ، والأعمال يتناول القرب التي هي العبادات ‏، ويتناول أيضًا عموم الأعمال كنوم الإنسان وشربه وأكله ؛ فإذا نوى بأكله وشربه ونومه التقوي على طاعة الله ، وعلى عبادة الله فهذا معتبر بهذه النية الصالحة التي قامت في قلب هذا العامل فيثاب على ذلك فالأعمال المباحة تتحول بالنية إلى عمل صالح لأن الأعمال معتبرة بنيتها ، وهذا مما يبين لنا مكانة النية الصالحة ، وعظم أثرها ‏بحيث أن صاحب النية الصالحة حياته كلها تتحول إلى عمل لله -عز وجل- بما في ذلك نومه ثم أن النبي عليه -الصلاة والسلام- في هذا الحديث ضرب مثلًا لتوضيح مكانة النية ، وعظيم أثرها ألا وهو ‏الهجرة وهي : الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ؛ فقال -عليه الصلاة والسلام- : (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ‏، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ؛ فأخبر -عليه الصلاة والسلام- أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النية تختلف باختلاف النية فمن هاجر من دار الكفر ‏إلى دار الإسلام حبًا لله -عز وجل- وحبًا لرسوله وطمعًا في صلاح حاله في ديار الإسلام ، وليتعلم دينه ويتفقه ، فهذا هو المهاجر إلى الله ‏ورسوله حقًا ، وهو الفائز بثواب الله قال : (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) من كانت هجرته إلى الله ورسوله ، الأولى : أي نية وقصدًا ‏فهجرته إلى الله ورسوله ، الثانية : أي ثوابًا وأجرًا ، ‏بينما من كان هاجر من ديار الكفر إلى ديار الإسلام لطلب الدنيا ، لدنيا يصيبها أو من أجل امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته كما قال -عليه الصلاة والسلام- : (إلى ما هاجر إليه) ، قال : (إلى ما هاجر إليه) تحقيرًا لما طلبه ‏من أمر الدنيا واستهانة حيث لم يذكره ‏بلفظه ‏؛ فالشاهد أن الهجرة هذه طاعة من الطاعات وبين عليه الصلاة والسلام أن مدار الأمر فيها وكذلك في غيرها من الطاعات على النية والنية محلها القلب ، والنيه ‏مكانها القلب وهي بين العامل وبين ربه -سبحانه وتعالى- ولهذا نص أهل العلم أنه لا يجوز التلفظ بالنية في أي قربة من القرب بل النية بينك وبين الله ‏-سبحانه وتعالى- ويجتهد المسلم في كل أعماله وفي جميع طاعاته على الإخلاص وصلاح القلب وقصد الله -سبحانه وتعالى- وحده بالأعمال ، وكل ذلكم بين العبد وبين ربه.

فمن صلى لله، فصلاته لله، ومن صلى للرياء فصلاته للرياء، وهكذا من حج أو تصدق أو جاهد أو نحو ذلك للرياء فله الرياء، ومن قصد وجه الله والدار الآخرة فله نيته وقصده، فالنية لها شأن عظيم ومقام عظيم في أعمالك يا عبد الله الظاهرة والباطنة، فالهجرة والصيام والصدقة والجهاد والحج وغير ذلك كله يحتاج إلى النية لله، وأن تكون قصدت وجه ربك ترجو ثوابه وتخشى عقابه، فالإنسان يخرج من بيته قاصدًا عملاً صالحًا فله أجره، قاصدًا عملاً سيئًا فعليه وزره إذا فعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

فمن صلى لله، إخلاص النية لله – عز وجل -، وأنه ينبغي أن تكون النية مخلصة لله في كل قول، وفي كل فعل، وعلى كل حال، هاتان الجملتان اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيهما: فقال بعض العلماء: إنهما جملتان بمعنى واحد، وأن الجملة الثانية تأكيد للجملة الأولى، ولكن هذا ليس بصحيح، وذلك لأن الأصل في الكلام أن يكون تأسيساً لا توكيداً، ثم إنهما عند التأمل يتبين أن بينهما فرقاً عظيماً؛ فالأولى سبب، والثانية نتيجة: الأولى: سبب يبين فيها النبي أن كل عمل لابد فيه من نية، كل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار، فلابد فيه من نية، ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً إلا بنية؛ حتى قال بعض العلماء: (لو كلفنا الله عملاً بلا نية، لكان من تكليف ما لا يطاق)، وهذا صحيح؛ كيف تعمل وأنت عاقل في عقلك، وأنت مختار غير مكره، كيف تعمل عملاً بلا نية؟ ! ، هذا مستحيل؛ لأن العمل ناتج عن إرادة وقدرة والإرادة هي النية ، إذن: فالجملة الأولى معناها أنه ما من عامل إلا وله نية، ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيماً، وتتباين تباينًا بعيداً كما بين السماء والأرض ، من الناس من نيته في القمة في أعلى شيء، ومن الناس من نيته في القمامة في أخس شيء وأدنى شيء؛ حتى إنك لترى الرجلين يعملان عملاً واحداً يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه، وفي الحركات والسكنات، والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض، كل ذلك باختلاف النية، إذن: الأساس أنه ما من عمل إلا بنية، ولكن النيات تختلف وتتباين، نتيجة ذلك قال : (وإنما لكل أمرئ ما نوى) ؛ كل امرئ له ما نوى: إن نويت الله والدار الآخرة في أعمالك الشرعية، حصل لك ذلك، وإن نويت الدنيا، قد تحصل وقد لا تحصل. قال الله تعالي: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) (الاسراء: الآية18) ما قال: عجلنا له ما يريد؛ بل قال: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) ، لا ما يشاء هو؛ (لِمَن نُّرِيدُ) لا لكل إنسان، فقيد المعجل والمعجل له؛ إذن من الناس: من يعطى ما يريد من الدنيا ، ومنهم من يعطى شيئاً منه، ومنهم من لا يعطى شيئاً أبداً، أما: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الاسراء: 19) لابد أن يجني ثمرات هذا العمل الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة. إذن (إنما لكل امرئ ما نوى) ، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات..إلخ) هذه الجملة والتي قبلها ميزان لكل عمل؛ لكنه ميزان الباطن، وقوله فيما أخرجه الشيخان عن عائشة i: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ميزان للأعمال الظاهرة، ولهذا قال أهل العلم: (هذان الحديثان يجمعان الدين كله)، حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) ميزان للباطن، وحديث عائشة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) ميزان للظاهر، ثم ضرب النبي مثلاً يطبق هذا الحديث عليه، قال: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلي ما هاجر إليه) ، (الهجرة) : أن ينتقل الإنسان من دار الكفر إلى دار الإسلام، مثل أن يكون رجل في أمريكا ـ وأمريكا دار كفر ـ فيسلم، ولا يتمكن من إظهار دينه هناك، فينتقل منها إلى البلاد الإسلامية، فهذه هي الهجرة. وإذا هاجر الناس، فهم يختلفون في الهجرة، الأول : منهم من يهاجر، ويدع بلده إلى الله ورسوله؛ يعني إلي شريعة الله التي شرعها الله على رسوله هذا هو الذي ينال الخير، وينال مقصوده؛ ولهذا قال : (فهجرته إلى الله ورسوله) ؛ أي فقد أدرك ما نوى، الثاني من المهاجرين: هاجر لدنيا يصيبها، يعني: رجل يحب جمع المال، فسمع أن بلاد الإسلام مرتعاً خصباً لاكتساب الأموال، فهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ من أجل المال فقط، لا يقصد أن يستقيم دينه، ولا يهتم بدينه، ولكن همه المال، الثالث: رجل هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ يريد امرأة يتزوجها، قيل له: لا نزوجك إلا في بلاد الإسلام، ولا تسافر بها إلى بلد الكفر، فهاجر من بلده ـ إلى بلاد الإسلام؛ من أجل أن يتزوج هذه المرأة. فمريد الدنيا ومريد المرأة، لم يهاجر إلى الله ورسوله، ولهذا قال النبي : (فهجرته إلى ما هاجر إليه) ، وهنا قال (إلى ما هاجر إليه)، ولم يقل (فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها) فلماذا؟، قيل: لطول الكلام؛ لأنه إذا قال: فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ صار الكلام طويلاً، فقال: (هجرته إلى ما هاجر إليه)، وقيل: بل لم ينص عليهما؛ احتقاراً لهما، وإعراضاً عن ذكرهما؛ فلأنهما حقيران؛ أي: الدنيا، والزوجة، ونية الهجرة – التي هي من أفضل الأعمال – لإرادة الدنيا والمرأة؛ نية منحطة سافلة، قال: (هجرته إلى ما هاجر إليه) فلم يذكر ذلك احتقاراً، وعلى كل حال سواء هذا أو هذا أو الجميع فإن هذا الذي نوى بهجرته الدنيا أو المرأة التي ينكحها لا شك أن نيته سافلة منحطة هابطة ، بخلاف الأول الذي هاجر إلى الله ورسوله ، والهجرة أنواع ، فالهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان، القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك. وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على المسلم أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه، وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناء على ذلك يكون السفر إلى بلد الكفر أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه، فكذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع، كما قال الله f: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 123) وقال f: (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة: من الآية120) ، فالكافر إياً كان، سواء كان من النصارى، أو من اليهود، أو من الملحدين، وسواء تسمى بالإسلام أم لم يتسم بالإسلام، الكافر عدو لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً، مهما تلبس بما تلبس به؛ فإنه عدو، فلا يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهاً في دينهم ، شبهاً في رسولهم شبهاً في كتابهم ، شبهاً في أخلاقهم، في كل شيء يوردون الشبهة؛ ليبقى المسلم شاكًا متذبذباً، ومن المعلوم أن المسلم إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين؛ فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره – الإيمان بهذه – يجب أن يكون يقيناً؛ فإن شك المسلم في شيء من ذلك فهو كافر، فالكفار يدخلون على المسلمين الشك، حتى إن بعض زعمائهم صرح قائلاً: لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلى دين النصارى، ولكن يكفي أن تشككوه في دينه؛ لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين، وهذا كاف، فأنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها الغلبة والعزة والكرامة ويكفي، أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى – المبني على الضلال والسفاهة – فهذا لا يمكن، لأن النصارى ضالون، كما جاء في الحديث عن النبي ، وإن كان دين المسيح دين حق، لكنه دين الحق في وقته قبل أن ينسخ برسالة النبي أما بعد نسخها فإن الهدى والحق فيما جاء به الرسول ، الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ لأن الإنسان الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلى بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا، شهوات، سكر، وزنا، ولواط، كل إجرام موجود في بلاد الكفر، فإذا ذهب إلى هذه البلاد فإنه يخشى عليه أن ينزلق في هذه الأوحال، إلا إذا كان عنده دين يحميه، فلابد أن يكون عند الإنسان دين يحميه من الشهوات. الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك؛ مثل أن يكون مريضاً؛ يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلى علم لا يوجد في بلد الإسلام تخصص فيه؛ فيذهب إلى هناك يتعلم، أو يكون الإنسان محتاجاً إلى تجارة، يذهب ويتجر ويرجع، المهم أنه لابد أن يكون هناك حاجة ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلد الكفر من أجل السياحة فقط، أرى أنهم آثمون، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم، وإضاعة لمالهم، وسيحاسبون عنه يوم القيامة؛ حين لا يجدون مكاناً يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه، حين لا يجدون إلا أعمالهم، لأن هؤلاء يضيعون أوقاتهم، ويتلفون أموالهم، ويفسدون أخلاقهم، وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم، ومن عجب أن هؤلاء يذهبون إلى بلاد الكفر التي لا يسمع فيها صوت مؤذن، ولا ذكر ذاكر، وإنما يسمع فيها أبواق اليهود، ونواقيس النصارى، ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم، فيحصل في هذا شر كثير، نسأل الله العافية والسلامة، وهذا من البلاء الذي يحل الله به النكبات التي تأتينا، والتي نحن الآن نعيشها كلها بسبب الذنوب والمعاصي، كما قال الله f: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30) نحن غافلون، نحن آمنون في بلادنا، كأن ربنا غافل عنا كأنه لا يعلم، كأنه لا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، والناس يعصرون في هذه الحوداث، ولكن قلوبهم قاسية والعياذ بالله، وقد قال الله – سبحانه وتعالى – : (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون: 76) أخذناهم بالعذاب، ونزل بهم، ومع ذلك ما استكانوا إلى الله، وما تضرعوا إليه بالدعاء، ولا خافوا من سطوته، ولكن قست القلوب – نسأل الله العافية-وماتت؛ حتى أصبحت الحوادث المصيرية تمر على القلب وكأنها ماء بارد، نعوذ بالله من موت القلب وقسوته، وإلا والله لو كان الناس في عقل، وفي صحوة وفي قلوب حية، ما صاروا على هذا الوضع الذي نحن عليه الآن، مع أننا في وضع نعتبر أننا في حال حرب مدمرة مهلكة، حرب غازات الأعصار والجنون وغير ذلك، ومع هذا ما تجد أحداً حرك ساكناً إلا أن يشاء الله، هذا لا شك أنه خطأ، إن أناسًا في هذه الظروف العصيبة ذهبوا بأهليهم يتنزهون في بلاد الكفر، وفي بلاد الفسق وفي بلاد المجون والعياذ بالله، والسفر إلى بلاد الكفر للدعوة يجوز؛ إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز، لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عمّي عليهم الإسلام، لا يدرون عن الإسلام شيئاً، بل قد ضللوا، وقيل لهم إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع، ولا سيما إذا سمع الغرب بمثل هذه الحوادث التي حصلت على أيدي من يقولون إنهم مسلمون، سيقولون أين الإسلام؟!، هذه وحشية!!، وحوش ضارية يعدو بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضًا، فينفر الناس من الإسلام بسبب أفعال المسلمين، نسأل الله أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم، القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر المسلم ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللهُ عنه) فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السبب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه. القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة، والمصلحة والفائدة أنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية، مثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلى صوابه، ورجل ثالث-وهو أعظمهم-لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر – والعياذ بالله -؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته، حتى إذا عرف نفسه ورجع إلى الله وعاد إلى الإسلام انتفع بذلك، أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفع وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر، الكافر المرتد يهجر على كل حال – أفاد أم لم يفد – لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان. فيبقى النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا؟، إن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك – رضي الله عنه – ، وهلال بن أمية – رضي الله عنه -، ومرارة بن الربيع – رضي الله عنه – الذين تختلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعاً عظيماً ولجأوا إلى الله، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم، هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العامل.


 

  • 1440/07/25
  • مشاهدات : 2٬030
  • مشاركة :
حقوق النشر لكل مسلم بشرط ذكر المصدر.
تنفيذ : تصميم مصري