والبداءة بهذه المختصرات هي الأساس لطلبة العلم ، فطالب العلم يبدأ بالتعلم شيئا فشيئا يأخذ من مبادئ العلم وأصوله ، ويتدرج فيه .
فهذه المختصرات طريق المطولات . لا يمكن أن تفهم المطولات إلا بعد فهم المختصرات والتدرج منها شيئًا فشيئًا ؛ ولهذا قالوا في معنى قوله تعالى : (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : 79 ] إن الربانيين هم الذين يبدؤون بصغائر مسائل العلم قبل كباره ، يربون أنفسهم وطلابهم ابتداء من المسائل الصغيرة إلى المسائل الكبيرة ، وهذا شيء طبيعي ؛ لأن كل الأشياء تبدأ من أصولها وأساساتها ثم تكبر وتعظم بعد ذلك ، فأما الذي يهجم على العلم هجوما من أعلاه ، فهذا يتعب ولا يحصل على شيء ، بينما الذي يبدأ من الأصول ويتدرج هذا هو الذي – بإذن الله – يسير مع الطريق الصحيح والاتجاه السليم .
قال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [ البقرة : 189 ] ، هؤلاء سألوا عن الأهلة ، لماذا يبدأ الهلال صغيرا ثم يكبر ثم يكبر حتى يتكامل ثم يصغر حتى يعود هلالا ؟ فعتب الله عليهم ، ووجههم أن يسألوا عما ينفعهم ، وأن يأتوا بيوت العلم من أبوابها . أما السؤال عن الهلال وأحواله وصغره وكبره ، فهذا لا فائدة لهم فيه ، بل الفائدة هي أن يسألوا عما يحتاجون إليه ، وهو معرفة فوائد الأهلة ولهذا قال : قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ بين لهم فوائدها ، وهي أن الله جعلها مواقيت للناس يعرفون بها العبادات والمعاملات والآجال ، وغير ذلك . فأرشدهم إلى فوائد الأهلة ، ولم يجبهم عن سؤالهم عن حقيقة الأهلة ، لأنه ليس لهم في ذلك فائدة وليوجههم إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه ، وهو أبواب العلم لا ظهور العلم والمسائل الفضولية التي لا يحتاجون إليها ، وإن احتاجوا إليها فهي حاجة قليلة .
فالبداءة بها في الرسائل وفي الكتب وفي المؤلفات اقتداء بكتاب الله – عز وجل – ، وكذلك النبي ﷺ كان يكتبها في أول رسائله حينما يكتب إلى الأمراء والرؤساء وإلى من في أقطار الأرض يدعوهم إلى الإسلام يبدأ كتابته ” ببسم الله الرحمن الرحيم ” ، وكان – صلى الله عليه وسلم – يفتتح أحاديثه وكلامه ” ببسم الله الرحمن الرحيم ” مما يدل على أن البداءة ” ببسم الله الرحمن الرحيم ” سنة الرسول ﷺ ، كما أن سليمان – عليه السلام – لما كتب إلى بلقيس ملكة سبأ بدأ كتابه ” ببسم الله الرحمن الرحيم ” : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [ النمل : 29 – 31 ] ، ينبغي البدء ” ببسم الله الرحمن الرحيم ” في كل أمر له أهمية وكل مؤلف له أهمية وله قيمة ، وكل رسالة ، وعلى هذا فالذين لا يبدءون مؤلفاتهم ورسائلهم ” ببسم الله الرحمن الرحيم ” هؤلاء تركوا السنة النبوية والاقتداء بكتاب الله – عز وجل – ، وربما بسبب ذلك أن كتبهم هذه ورسائلهم ليس فيها بركة وليس فيها فائدة ؛ لأنها إذا خلت من ” بسم الله الرحمن الرحيم ” فإنها منزوعة الفائدة ، لماذا تركوا ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ؟ ، إنما تركوها لأنها سُنة ، وهم ينفرون من السنة ، أو يقلدون من ينفر من السنة ، فينبغي التنبه لمثل هذا ، فمعنى ” بسم الله الرحمن الرحيم ” : الاستعانة باسم الله ، فقوله : بسم الله : جار ومجرور متعلق بمحذوف ، تقديره : أستعين بسم الله الرحمن الرحيم ، أو أبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم تبركا بها واستعانة بالله – عز وجل – ، فهي مطلع عظيم للكلام وللكتب والرسائل ، فالإنسان يستعين بالله في بدايتها ويتبرك باسمه سبحانه وتعالى .
فالواجب على المعلم وعلى من يدعو إلى الله ، وعلى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر التلطف بمن يخاطبه بالدعاء والثناء عليه والكلام اللين فإن هذا أدعى للقبول ، أما المعاند والمكابر فهذا له خطاب آخر قال الله سبحانه:(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [ العنكبوت : 46 ] ، فالذين ظلموا من أهل الكتاب وعاندوا وكابروا هؤلاء لا يخاطبون بالتي هي أحسن بل يخاطبون بما يردعهم . قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ التوبة : 73 ] ، المنافقون لا يجاهدون بالسلاح ، وإنما يجاهدون بالحجة والكلام والرد عليهم بالغلظة ردعا لهم وتنفيرا للناس عنهم ، وقال تعالى فيهم : وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [ النساء : 63 ] ، هؤلاء لهم خطاب خاص ؛ لأنهم أهل عناد ومكابرة ولا يريدون الحق بل يريدون تضليل الناس فهؤلاء يخاطبون بما يليق بهم . أما الطالب المسترشد فهذا يخاطب بالرفق والرحمة واللطف ؛ لأنه يريد الحق ويريد العلم والفائدة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[ التوبة : 73 ] ، المنافقون لا يجاهدون بالسلاح ، وإنما يجاهدون بالحجة والكلام والرد عليهم بالغلظة ردعاً لهم وتنفيراً للناس عنهم ، وقال تعالى فيهم : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [ النساء : 63 ] ، هؤلاء لهم خطاب خاص ؛ لأنهم أهل عناد ومكابرة ولا يريدون الحق بل يريدون تضليل الناس فهؤلاء يخاطبون بما يليق بهم ، أما الطالب المسترشد فهذا يخاطب بالرفق والرحمة واللطف ؛ لأنه يريد الحق ويريد العلم والفائدة .
من حقوق التوحيد الولاء لأولياء الله والبراء من أعداء الله ، والموالاة والولاء بمعنى واحد ، والولاء يراد به المحبة بالقلب ، ويراد به المناصرة والمعاونة ، ويراد به الإرث والعقل في الديات .
فالمسلم يوالي أولياء الله بمعنى أنه يحصر محبته على أولياء الله ويناصرهم ، فالمسلم يكون مع المسلمين بعضهم من بعض ، كما قال تعالى : (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [ الأنفال : 75 ] . فالتعاقل في ديات الخطأ يكون بين المسلمين ، وهو ما يسمى بالتكافل ، كل هذا يدخل في الولاء ، فلا يكون بين مسلم وكافر ، والمحبة والنصرة والميراث والعقل وولاية النكاح وولاية القضاء إلى غير ذلك ، فلا يكون بين مسلم وكافر ؛ وإنما يكون هذا بين المسلمين لقوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [ النساء : 141 ] . هكذا يجب أن يتميز المؤمنون عن الكفار ، فلا يجوز لمن وحد الله وأطاع الرسول ﷺ موالاة من حاد الله .
والمحادة معناها : أن يكون الإنسان في جانب ، والله ورسوله والمؤمنون في جانب ، ويكون المحاد في جانب الكفار هذه هي المحادة .
قوله : (ولو كان أقرب قريب) : أي نسبًا ، فإذا كان قريبك محادا لله ورسوله فيجب عليك محادته ومقاطعته ، ومن كان وليا لله ورسوله وجب عليك أن تحبه وتواليه ، ولو كان بعيدًا من النسب عنك ، لو كان أعجميا أو أسود أو أبيض أو أحمر يجب عليك أن تواليه وأن تحبه سواء كان من بلدك أو من أقصى الشرق أو من أقصى الغرب ، قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [ التوبة : 71 ] ، أي : بينهم المحبة والتناصر والتعاون ، وبينهم الألفة هذا بين المؤمنين .
والدليل قوله تعالى : (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ المجادلة : 22] .
قوله تعالى : ( لا تجد ) : هذا خطاب للنبي ﷺ ، أي : لا يقع هذا ولا يكون موجودًا أبدًا أن يكون مؤمن بالله ورسوله يحب الكفار ، فإن أحبهم ؛ فإنه ليس بمؤمن ، ولو كان يدعي ذلك .
قال ابن القيم – رحمه الله – في الكافية الشافية :
ودلت الآية أيضًا على أن محبة الكافر تتنافى مع الإيمان بالله واليوم الآخر ، إما مع أصله أو مع كماله ، لكن إن كانت محبتهم معها تأييد لمذهبهم وكفرهم فهذا خروج عن الإسلام ، أما إن كان مجرد محبة من غير مناصرة لهم فهذا يعتبر منقصًا للإيمان وفسقًا ومضعفًا للإيمان .فهذا لا يمكن أبدًا أن يحب الكفار ، يقول : أنا أحب الله ورسوله لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [ الممتحنة : 1 ] إلى قوله تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [ الممتحنة : 4 ] . وقوله : (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [ التوبة : 114 ] ، هذه ملة إبراهيم تبرأ من أبيه ، أقرب الناس إليه لما تبين له أنه عدو الله .
قيل : إن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه – لما قتل أباه يوم بدر ؛ لأن أباه كان على الكفر ، وكان يريد أن يقتل ابنه أبا عبيدة ، فقتله أبو عبيدة – رضي الله عنه – لأنه عدو الله ولم يمنعه أنه أبوه ، لم يمنعه ذلك من قتله غضبًا لله – سبحانه وتعالى – .
قوله تعالى : أُولَئِكَ : أي الذين يبتعدون عن محبة ومودة من حاد الله ورسوله .
قوله تعالى : كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ : أي أثبت الله في قلوبهم ورسخ الله في قلوبهم الإيمان .
قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) : التأييد معناه التقوية ، قواهم بروح منه ، والروح لها عدة إطلاقات في القرآن ، منها الروح التي هي النفس التي بها الحياة ، ومنها الوحي كما في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) [ الشورى : 52 ] ومنها جبريل – عليه السلام – أنه روح القدس ، والروح الأمين .
قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [ النحل : 102 ] وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [ الشعراء : 193] ومنها ما في هذه الآية وهي القوة .
فأيدهم بروح منه أي بقوة منه سبحانه وتعالى ، قوة إيمان في الدنيا ، وفي الآخرة وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ جمع جنة ، والجنة في اللغة البستان ، سمي جنة لأنه مجتن بالأشجار ، أي : مستتر ومغطى بالأشجار الملتفة ، لأن الجنة ظلال وأشجار وأنهار وقصور وأعلاها وسقفها عرش الرحمن سبحانه وتعالى .
قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) أي: باقين فيها لا يتحولون عنها قال تعالى : (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) [ الكهف : 108 ] لا يخافون من موت ولا يخافون من أحد يخرجهم ويطردهم ، مثل ما في الدنيا ، قد يكون الإنسان في الدنيا في قصور لكن لا يسلم من الموت فيخرج منها ، ولا يسلم من الأعداء يتسلطون عليه ويخرجونه ، الإنسان في الدنيا دائمًا خائف .
قوله تعالى : (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) : لما أغضبوا أقرباءهم من الكفار وعادوهم منحهم الله الرضا منه سبحانه وتعالى جزاءً لهم ، فهم عوضوا بإغضابهم لأقاربهم الكفار ، عوضوا برضا الله سبحانه وتعالى ، رضي الله عنهم ورضوا عنه .
قوله تعالى : (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ) أي : جماعة الله ، وأما الكفار فهم حزب كما قال الله تعالى عنهم : (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ) [ المجادلة : 19 ] أي جماعة الشيطان وأنصار الشيطان ، أما هؤلاء فهم أنصار الرب .
ولا بد من الاعتقادات بأنهﷺ أسري وعرج بروحه وجسمه معًا يقظة لا منامًا ، لأن بعض الناس يقولون : أسرى بروحه ، وأما جسده فلم يبرح مكة وإنما أسري وعرج بروحه وهذا كلام باطل ، بل أنه أسري بروحه وجسده – عليه الصلاة والسلام – وحمل على البراق ، وكان ذلك يقظة لا منامًا إذ لو كان بروحه فقط أو كان منامًا فما الفرق بينه وبين الرؤيا ، والله جل وعلا يقول : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) [ الإسراء : 1 ] ، فالعبد يطلق على الروح والبدن جميعا لا يطلق على الروح وحدَها أنها عبد ، ولا يطلق على البدن وحده أنه عبد ، لا يطلق إلا على مجموع الروح والبدن ، لم يقل : سبحان الذي أسرى بروح عبده ، بل قال : أسرى بعبده ، والعبد هو مجموع الروح والبدن ، والله جل وعلا لا يعجزه شيء وهو القادر على كل شيء (ج3ص169) .
هذه الآية من سورة العنكبوت ، وفيها الأمر بالهجرة وأن أرض الله واسعة ، إذا كنت في بلد لا تتمكن من إظهار دينك فيها ، فهناك أرض الله واسعة ، انتقل منها ، لا تبقَ في هذه البقعة السيئة بل اخرج منها إلى أرض الله الواسعة ، قد وسع الله الأرض سبحانه (ج3ص175).
فلم يتوف ﷺ إلا بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، وأنزل عليه قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [ المائدة : 3 ] ، نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو واقف في عرفة في حجة الوداع من يوم الجمعة ، وعاش بعدها ﷺ مدة يسيرة وانتقل إلى الرفيق الأعلى ، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، وفي هذه الآية شهادة من الله سبحانه وتعالى على كمال هذا الدين وشموله لمصالح العباد وحل قضاياهم ومشاكلهم إلى أن تقوم الساعة ، وهو صالح لكل زمان ومكان لا يحتاجون بعده إلى شريعة أخرى ، أو إلى كتاب ينزل أو إلى رسول يبعث بعد الرسول ﷺ ، فما من قضية تجد وما نازلة تنزل إلى يوم القيامة إلا وفي شريعة محمد ﷺ حلها والحكم فيها ، ولكن الشأن فيمن يحسن الاستنباط والاستدلال في الأحكام والقضايا ، فإذا توفر أهل العلم وأهل الاجتهاد الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد فإن هذه الشريعة كاملة وفيها حل المشاكل كلها ، وإنما يحصل النقص من ناحيتنا نحن ، من ناحية قصور العلم وعدم إدراك ما أنزل الله سبحانه وتعالى ، أو من ناحية الهوى بأن يكون هناك هوى يصرف عن الحق ، وإلا فهذا الدين صالح وشامل وكامل قد أغنى الله به الأمة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة إذا ما عملت به حق العمل ، ورجعت إليه في أمورها ، قال تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [ النساء : 59 ] الرد إلى الله هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته ، قال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى : 10 ]فهذه الآية فيها رد على الذين يرمون الشريعة الإسلامية بالقصور أو النقص من الملاحدة والزنادقة أو أنصاف المتعلمين الذين قصرت أفهامهم عن إدراك أسرار هذه الشريعة ، فنسبوا القصور إلى الشريعة ولم يعلموا أن القصور من عندهم هم ، ففيها رد على من اتهم الشريعة بالنقص ، وأنها لم تتناول حاجات العباد ومصالح العباد إلى أن تقوم الساعة ، أو قال : إنها مخصوصة بالزمان الأول ؛ لأن كثيرًا من الجهال إذا قيل لهم هذا الحكم الشرعي قالوا : هذا زمان الرسول والزمان الأول ، أما الآن تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور ، والأحكام الشرعية هذه لأناس مضوا ولمشاكل انتهت ، يقولون هذا وهذا كفر بالله عز وجل وتكذيب لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أكمل الله الدين لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة لكل زمان ولكل مكان ولكل جيل من الناس وفيها رد أيضا على المبتدعة الذين يحدثون عبادة من عند أنفسهم وينسبوها إلى الدين وليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، وإنما ابتدعوها باستحسانهم أو بتقليدهم لمن يحسنون به الظن من المخرفين وأصحاب المطامع والشهوات ، فيحدثون في الدين عبادة ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد قال ﷺ : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال عليه الصلاة والسلام : (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ، فالذي يحدث عبادات ليس لها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإنه متهم لهذا الدين بعدم التمام ، وهو يريد أن يكمل الدين من عنده ، ولا يعترف بتكميل الله له ، فما لم يكن دينًا في عهد النبي ﷺ فإنه لا يكون من بعده دينًا أبدًا ، فهذا رد على هذه الطوائف ، الطائفة التي تقول : إن الإسلام لا يصلح لكل زمان ، أو الذين يبتدعون البدع المحدثات التي ليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله وينسبونها إلى الدين ففي هذه الآية رد عليهم لأن الدين أكمله الله سبحانه وتعالى ، فلا مجال للزيادة فيه ، ولا النقصان ، ولا مجال للتشكيك والتلبيس بأنه لا يصلح لأهل الزمان المتأخر : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) هذا كلام الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين وقال تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذا آخر ما نزل على النبي ﷺ ، وهو شهادة من رب العاملين لهذا الدين بالكمال والشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان ، فقوله تعالى خطاب لهذه الأمة من أولها إلى آخرها ليس خطابًا للجيل الأول فقط إنما هو خطاب لكل الأمة إلى أن تقوم الساعة (ج3ص177-178-179).
أقسام المسلمون في الحساب يوم القيامة :
القسم الأول منهم : من لا يحاسب ويدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب كما في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب أخرجه البخاري (5705) ومسلم (218) مِن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه .
القسم الثاني من الناس : من يحاسب حسابًا يسيرًا وهو العرض فقط ، لا يحاسب حساب مناقشة وإنما يحاسب حساب عرض فقط ، وهذا أيضا من السعداء ، قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق : 7 – 9 ] .
القسم الثالث : من يحاسب حساب مناقشة وهذا تحت الخطر لقوله ﷺ : (من نوقش الحساب عذب) أخرجه البخاري (103) ومسلم (2876) مِن حديث عائشة رضي الله عنها .
أما الكفار فقد اختلف العلماء فيهم هل يحاسبون أو لا يحاسبون ، فمن العلماء من يقول : إن الكفار لا يحاسبون لأنهم ليس لهم حسنات وإنما يذهب بهم إلى النار لأنهم ليس لهم حسنات ، ومن العلماء من يقول: إنهم يحاسبون حساب تقرير ، أي بأعمالهم وكفرهم وإلحادهم ، ثم يذهب بهم إلى النار (ج3ص185).
الصلاة إذا فقدت فإن الإسلام لا يقوم ، ولذلك قال العلماء : إن من ترك الصلاة تكاسلًا فإنه يكفر على الصحيح ولو كان يعترف بوجوبها ؛ لأنه لا فائدة من الاعتراف بالوجوب مع عدم التطبيق وعدم العمل ، لا فائدة من ذلك ، ولذلك حكم المحققون من أهل العلم بكفر من ترك الصلاة متعمدًا ولو كان يقر بوجوبها ، أما من كان يجحد وجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين (ج3ص203-204).