الفوائد المنتقاة :
صحة قول أن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال : هذا الكلام ( كون الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال) ليس مسلم ، لأن فضائل الأعمال وغير فضائل الأعمال كلها لابد فيها من التعويل على أحاديث ثابتة عن رسول الله ﷺ ، ونسبة الشيء إلى رسول الله ﷺ والإتيان به تعبداً لا يكون إلا بثبوت ، ولا فرق في ذلك بين فضائل الأعمال وغير فضائل الأعمال ، نعم إذا كان الحديث الذي في فضائل الأعمال له أصل وكان هناك أحاديث تدل على معناه فإن المعول على غيره ، ووجوده مع غيره ليس معتمداً عليه وإنما اعتماده على غيره ، خذ مثل صلاة الجماعة ، صلاة الجماعة جاء فيها أحاديث صحيحة وأحاديث ضعيفة ، فالعمل على الأحاديث الصحيحة وليس العمل على الحديث الضعيف الذي يأتي فيها ، وأما إذا كان العمل لم يثبت أو لم يأتي إلا عن طريق ضعيف فعند ذلك لا يتعبد الله – عز وجل – بشيء لم يأتي إلا من طريق ضعيف سواء في فضائل الأعمال أو غير فضائل الأعمال (شرح رياض الصالحين ش1).
هذه طريقة الصحابة عندما يأتون بالحكم يأتون بدليله ولو لم يطلب منهم : وهذه طريقة الصحابة – رضي الله عنهم – عندما يأتون بالحكم يأتون بدليله ولو لم يطلب منهم ، وذلك أن الإتيان بالدليل هو الأساس الذي يُبنى عليه ، والسائل عندما يسمع حديث الرسول ﷺ أو يسمع الدليل من الكتاب والسنة لا شك أن الناس متعبدون بالتزام الكتاب والسنة وبالعمل بما جاء في الكتاب والسنة ، فإذا أجاب المسؤول السائل عن مسألته وأتى بعد ذلك بالدليل فهذا من تمام الإجابة ومن تمام الإحسان ، ومن تمام طمأنت السائل إلى أن الجواب الذي أجيب به مبني على نص من كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله ﷺ (شرح الأربعين النووية ش2).
كونه يوجد الفتن والمحن جهة العراق ولا يعني ذلك أنه مافيه إلا الشر بل هناك الخير الكثير : ثم أيضاً هذه البدعة – بدعة معبد الجهني – حصلت في العراق ، وكثير من البدع نشأت من هناك ، وكثير من الشرور ظهر من هناك ، يعني مثل كالجهة ، وهذا يبين لنا معنى الحديث الذي فيه : (اللهم بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا ، قالوا : وفي نجدنا ؟ ، قال : هناك الزلازل والمحن) وقد جائت آثار وأحاديث تدل على أن المقصود بذلك جهة العراق وما وراء العراق من بلاد فارس ، وأول شيء حصل هو كون ملكهم مزق كتاب رسول الله ﷺ ، لما أرسل النبي ﷺ الكتاب إليه مزقه ، وهذا بخلاف ملك الروم فإنه احتفظ بالكتاب وحفظه وصار يبحث عمن يأتي لبلاده من العرب ليسألهم عن هذا الرسول – عليه الصلاة والسلام – ، وقصة هرقل مشهورة وهي في أول صحيح البخاري المشتمل على كتاب الرسول ﷺ وأنه احتفظ به ، وأنه لما جاء أبو سفيان ومن معه سألهم وقرأ الكتاب وسألهم عن الرسول ﷺ وعن الأمور التي كان يعلمها عن الأنبياء فوجدها موجودة في هذا الرسول الكريم ﷺ ، وقد بين ذلك أبو سفيان – رضي الله عنه – حيث تحمل هذا في حال كفره ثم أدى ذلك بعد إسلامه ، الحاصل أن كثير من البدع وكثير من الشرور إنما خرجت من تلك الجهة ، ولا يزال على مختلف العصور كثير من الشرور تأتي من الجهة ، ولا يعني ذلك أنه مافيه إلا الشر بل هناك الخير الكثير ، فإن كثير من العلماء من المحدثين والفقهاء هم في تلك الجهة وأكثرهم من العجم ، وأصحاب الكتب الستة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم من تلك الجهة والإمام أحمد وأبو حنيفة وسفيان الثوري وكثير من الفقهاء والمحدثين من تلك الجهة ، لكن الحديث الذي ورد وقد بين ذلك أهل العلم منهم الخطابي ومنهم ابن حجر وقالوا : إن هذا هو المقصود بنجد ، وليس المقصود به كما يقول بعض الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بإن المقصود في ذلك نجد الذي هو اليمامة فإن اليمامة ما كانت معروفة وليس لها ذكر وليس لها شأن ، وإنما نجد يراد به الأماكن المرتفعة المختلفة ، والحديث الذي فيه ذكر : ووقت لأهل نجد قرن المنازل ، ليس المقصود به اليمامة بل المقصود به كل الجهات المرتفعة التي تكون من تلك الجهة كالطائف وما وراء الطائف ومن جميع الجهات كلها يقال لها نجد لأن تهامة فيها يلملم ، ونجد وهي الأماكن المرتفعة والذي يأتي من الناس من أماكن مرتفعة ميقاتهم قرن المنازل الذي وقته النبي ﷺ لأهل نجد ، فالحاصل أن هذه البدعة التي ظهرت وأول ما ظهرت في العراق في البصرة وأن أول من أظهرها معبد الجهني كما جاء في إسناد الحديث الذي هو عند الإمام مسلم يدلنا على ظهور كثير من الشرور من تلك البلاد وإن كان حصل فيها كثير من الخير وكثير من أهل العلم سواء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك من سائر العلوم (شرح الأربعين النووية ش2).
الرد على من قال إننا لا نتصور كلام الله إلا أن يكون كطريقة البشر : قال – عز وجل – : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) سورة الشورى ، أثبت السمع والبصر ونفى المشابهة ، فله سمع لا كالأسماع ، وبصر لا كالأبصار ، ويتكلم لا كتكلمنا بل كلامه – سبحانه وتعالى – كما يليق به ، فإذاً أولاً : لا تلازم بين الإثبات والتشبيه ، هناك إثبات مع تشبيه ، وهناك إثبات مع تنزيه ؛ والحق هو الإثبات مع التنزيه ، الأمر الثاني أنهم قالوا : ” إننا لا نتصور كلام إلا أن يكون بهذه الطريقة وأن يكون بحنجرة ولهاة ومخارج حروف وشفتين ولسان ” ؛ ليس بلازم أن يكون بهذه الطريقة التي نعرفها ونعقلها ليس بلازم ، بل قد وجد الكلام في الدنيا وسيوجد بالآخرة بدون هذه الطريقة التي نعقلها ، أما في الدنيا فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال : (إني لأعرف حجراً بمكة، كان يسلم علي قبل أن أُبْعَث، إني لأعرفه الآن) ، حجر ، كيف تكلم الحجر ؟! ، يعني لا يتكلم الحجر إلا أن يكون له فم ولسان وشفتين وحنجرة ومخارج حروف وإلا لا يتكلم ؟! ، الحجر تكلم ووجد منه الكلام وأخبر بذلك رسول الله ﷺ ، وقال أنه يسلم علي ، حجر ، كيف تكلم الحجر الله تعالى أعلم ، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء ، وقولهم لا يتصور كلام إلا بهذه الطريقة هذا كلام باطل ، لأنه وجد في الدنيا كلام ليس على هذه الطريقة ، لا ندري كيف كان التكلم ، وأيضًا الذراع الذي كان وضعت فيه اليهودية السم ، وكانت تعجبه الذراع ، فوضعت السم في الذراع ، ولما نهس منه نهسة تكلم الذراع وقال إنه مسموم (متفق عليه) ، الذراع تكلم كيف يتكلم ؟! ، يعني ما يتكلم إلا يكون له لهاة وحنجرة ولسان وشفتين ومخارج الحروف؟! ، الله تعالى أنطقه الذي أنطق كل شيء ، فإذًا وجد الكلام في الدنيا على وجه غير الذي نعقله ونعرفه ، وإذا كان هذا حصل من مخلوق وما عرفنا كيف تكلم ، فالله – عز وجل – يتكلم ولا نعرف كيف يتكلم ، إذا كنا لا نعرف كيف تكلم المخلوق فمن باب أولى أن لا نعرف كيف يتكلم الخالق ، والتكييف لا يُسأل عنه ولا يُبحث فيه ، ولا يُتصور الإنسان يعمل على أن يتصوره ويتخيله ، بل يُفوض الكيفية إلى الله – عز وجل – كما قال مالك : “الإستواء معلوم ، والكيف مجهول ” وهذا يُقال في جميع الصفات ، كل صفة يقال فيها أن الكيف مجهول ، وكيفية التكلم مجهولة بالنسبة لنا ، وإذا كان هذا مخلوق موجود ومع ذلك ما عقلنا كيف تكلم فمن باب أولى أن لا نعقل كيف تكلم الخالق بل ولا نفكر في ذلك ، لكن هؤلاء الذين يقولون لا يتصور كذا إلا بكذا قد وجد كلام على غير الطريقة التي نعقلها وهي من مخلوق ، وأما في الآخرة فقد أخبر الله – عز وجل – أنه يختم على الأفواه وتنطق الأيدي والأرجل والجلود بما كان يعمل الإنسان ، تنطق الأيدي والأرجل والجلود ، وهذا شيء على غير الكيفية التي نعقلها وهي ألا يكون إلا بحنجرة ولهاة ومخارج الحروف ، وعلى هذا فالذين ينفون الصفات عن الله – عز وجل – بحجة أنهم لو أثبتوا لكانوا مشبهين فينفونها والنتيجة أنهم يقعون في تشبيه أسوء وهو التشبيه في المعدومات ، حيث فروا من تشبيه سيء تخيلوه ووقعوا في تشبيه أسوء وهو كون الله – عز وجل – يكون لا وجود له لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات كما عرفنا ذلك بالمثال الذي ذكره الذهبي عن حماد بن زيد ، الذهبي – رحمه الله – في كتابه العلو لما نقل كلام ابن عبدالبر علق عليه بقوله : وقلت : صدق وَالله ، يعني صدق ابن عبد البر أن المعطلة نافون للمعبود ، صدق والله ، قال : فإن المعطلة أو فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد : (مثل الْجَهْمِية كقوم قَالُوا فِي دَارنَا نَخْلَة قيل لَهَا سعف قَالُوا لَا قيل فلهَا كرب قَالُوا لَا قيل لَهَا رطب وقنو قَالُوا لَا قيل فلهَا سَاق قَالُوا لَا قيل فَمَا فِي داركم نَخْلَة) ، النتيجة أنه لا يوجد في داركم نخلة ، إذا لم يكن لها ساق ولا سعف ولا خوص ولا قنو وكل صفات النخل ومنتفية عنها إذًا لا وجود للنخلة في داركم ، فكذلك الذي يقول أن الله ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا وكل ما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ ينفونه عنه إذًا لا وجود له ، وهذا هو معنى قول ابن عبد البر : (وهم عِنْد من أقرّ بهَا نافون للمعبود) ، وعلى هذا يتضح لنا أن الحق هو وسط بين الطرفين المتناقضين : الطرف الذي أثبت وشبه ، والطرف الذي نفى وعطل ؛ والحق هو مع الذي أثبت ونزه ، وهو الذي دل عليه القرآن في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) فإن : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) إثبات ، وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنزيه ، فله سمع لا كالأسماع وبصر لا كالأبصار وكذلك يقال في جميع الصفات (شرح الأربعين النووية ش2)
الفرق بين النبي والرسول ومعنى كون نبينا ﷺ رسول ونبي: ثم إنه جاء في القرآن ذكر الرسل والأنبياء ، ونبينا ﷺ جاء وصفه بالنبوة والرسالة ، وخاطبه الله تعالى بهذين الوصفين : يا أيها الرسول ، يا أيها النبي ،آيات في كتاب الله – عز وجل – فيها خطابه بيا أيها النبي ، وآيات فيها خطابه بيا أيها الرسول ، والقرآن جاء في ذكر الرسل والأنبياء ، ومن العلماء من قال : إنه لا فرق بين النبي والرسول ، ولكن الأدلة دلت على الفرق بين النبي والرسول ، وأن الرسل هم الذين أنزل عليهم الكتب وأرسلوا برسالة مستقلة ابتداءاً كما حصل لموسى الذي أنزلت عليه التوراة ، وابراهيم الذي أنزلت عليه الصحف ، وكذلك نبينا محمد ﷺ اذي أنزل عليه القرآن ، ومنهم من أمروا أن يبلغوا رسالات سابقة ولم ينزل عليهم كتب كأنبياء بني اسرائيل من بعد موسى الذين يحكمون بالتوراة كما قال الله – عز وجل : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) فالأنبياء من بعد موسى يحكمون بالتوراة ، ولم ينزل عليهم كتاب وإنما أمروا أن يبلغوا هذا الكتاب وأن يحكموا بهذا الكتاب وأن يدعو إلى هذا الكتاب الذي هو كتاب موسى ، وعلى هذا فالرسول : هو الذي أوحي إليه بشرع ابتداءاً وأنزل عليه الكتاب ، والنبي : هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة ولم ينزل عليه كتاب كأنبياء بني اسرائيل الذين يحكمون بالتوراة من بعد موسى كما جاء ذلك في هذه الآية من سورة المائدة ، لكن قد جاء وصف نبينا بأنه نبي وأنه رسول ، وجاء وصف اسماعيل بأنه نبي ورسول ، وجاء وصف موسى بأنه نبي ورسول ، أما نبينا محمد ﷺ فقد خوطب بيا أيه الرسول ويا أيها النبي وهو نبي وهو رسول ﷺ ، وموسى قال الله – عز وجل – فيه : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا) ، وقال الله تعالى عن اسماعيل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا) فوصفهم بالنبوة والرسالة ، بالنسبة لنبينا محمد ﷺ أوحي إليه أولاً ولم يؤمر بالتبليغ وذلك لما أنزلت عليه سورة اقرأ وقبل أن تنزل عليه سورة المدثر هو نبي ولم يكن رسولاً في ذلك الوقت ، وبعدها أنزلت عليه المدثر صار نبيًا رسولاً ﷺ، ولذلك يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – في كتابه الأصول الثلاثة : (نبأ باقرأ وأرسل بالمدثر) ، يعني صار نبياً بنزول اقرأ عليه ، وصار رسولاً نبياً بنزول المدثر عليه ﷺ ، فيمكن أن يقال : النبي هو الذي أوحي إليه بشرع في وقت ما ولم يؤمر بتبليغه وهذا مثل الحالة التي قبل نزول المدثر في حق نبينا محمد ﷺ ، أو أمر بأن يبلغ رسالة سابقة كما حصل في حق أنبياء بني اسرائيل من بعد موسى الذين يحكمون بالتوراة ، وأما التفريق المشهور الذي يقول : الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فإنه فيما يتعلق بالنبي لا يستقيم لأنه جاء في القرآن أن النبي مرسل كما قال الله – عز وجل – : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) فوصف النبي بأنه مرسل ، وقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ) عطف الرسول على النبي معناه أنه شيئان وليس شيئاً واحداً ، وعلى هذا فيكون الأنبياء يعني لم ينزل عليهم كتب الذين هم أنبياء ولم يكونوا رسل ، ولكنهم رسل من حيث التبليغ ، لكن ما أنزل عليهم كتب ، ولكنهم يحكمون بالتوراة المنزلة على موسى ﷺ (شرح الأربعين النووية ش2).
ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل منهما بنون: قد أورد البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في كتاب الرقاق أنه قال : (ارْتَحَلَتِ الدّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدّنْيَا فَإِنّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ) ، كل يوم يمضي من حياة الإنسان يقربه من النهاية ، يقربه من الأجل ، وما مضى من حياته قد عمل فيه ما عمل ، وإنما عليه أن يصلح في المستقبل ، وأن يتدارك في المستقبل إذا كان عنده تقصير ، كل يوم يمضي عليه يباعده من الدنيا ويقربه من الآخرة ، (ارْتَحَلَتِ الدّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ) في أناس يشتغلون للدنيا ويغفلون عن الآخرة ، وفي أناس يشتغلون للآخرة ولا تكون همهم الدنيا ، ثم قال : (فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ) أي في الدنيا ، (وَغَدًا) يعني بعد الموت (حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ) الإنسان لا يعمل وإنما يجازى إن خيراً فخير وإن شراً فشر كما قال الله – عز وجل – :(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) ، ويقول في الحديث القدسي : (يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ) هو الذي جنى على نفسه ، وهو الذي فعل الأفعال التي تلحق به الضرر وتوصله إلى الضرر (شرح الأربعين النووية ش4).
مقتضى شهادة لا إله إلا الله محمدًا رسول الله: مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله : أن لا يعبد إلا الله ، ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله : أن لا يُعبد الله إلا طبقًا لما شرع رسول الله – عليه الصلاة والسلام – ، فلابد من تجريد الإخلاص لله وحده فلا يعبد مع الله غيره ، ولابد من تجريد المتابعة للرسول ﷺ فتكون المتابعة والاتباع والعمل فعلاً وتركًا طبقًا لما جاء عن رسول الله ﷺ ، كما قال الله – عز وجل – : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) والعمل الصالح : هو ما كان خالصًا لله ، ومطابقًا لسنة رسول الله ﷺ ، فلو اختل الركنان أو الشرطان أو اختل أحدهما فإن العمل يكون مردودًا على صاحبه ، فلو أتي بالإخلاص دون المتابعة فإن العمل مردود لقوله ﷺ : ( مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ) (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، ومن أتى بالعبادة مطابقة للسنة ولكن أشرك مع الله تعلى فيها غيره فإنها أيضًا مردودة على صاحبها لعدم الإخلاص والله تعالى يقول : (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) ، وفي الحديث القدسي يقول الله – عز وجل – : (أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ ، مَنْ عمِلَ عملًا أشركَ فيه معِيَ تركتُهُ وشِركَهُ) (شرح الأربعين النووية ش7).
الصلاة أهم الأركان بعد الشهادتين: والصلاة هي أهم الأركان بعد الشهادتين ، وهي التي يتميز بها في فترة وجيزة من يكون مطيعًا ومن يكون عاصيًا ، لأن الإنسان إذا رافق إنسانًا أو عامل إنسانًا أو خالط إنسانًا يستطيع أن يكتشفه في خلال أربع وعشرين ساعة بأنه على الحق أو على الضلال ، إن كان رآه محافظًا على صلاته وحريصًا على الصلاة فهي علامة خير ، وإن كان رآه مضيعًا للصلاة فهي علامة شر ، يتبين ذلك في فترة وجيزة ، بخلاف بقية الأركان – أركان الإسلام – فإنها لا تأتي إلا بالسنة مرة واحدة ، وبعضها لا يأتي بالعمر إلا مرة واحدة ، أما الصلاة فإنها تأتي باليوم والليلة خمس مرات ، ولهذا فإنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه يكون المسلم على صلة وثيقة بالله – عز وجل – ، وﻷهميتها جاء ذكرها بعد الشهادتين فهي أهم الأركان بعد الشهادتين ، وجاء نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على عظيم شأن الصلاة ، فقد جاء أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وجاء أن أهل سقر أول ما يسألون مالذي أرسلهم في سقر ؟ ، لأنهم لا يصلون ، وأنها فرضت ورسول الله ﷺ في السماء ولم تعرض عليه وهو في الأرض ليلة المعراج ، وأنها آخر ما يفقد من الدين في هذه الحياة ، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة ، وأنها الحد الفاصل بين المسلم والكافر ، وهي من آخر ما أوصى به رسول الله ﷺ في مرض موته فإنه كان أوصى بالصلاة وما ملكت الأيمان ، لأهميتها ولعظيم شأنها ولكونها مستمرة ولكون المسلم على صلة وثيقة دائمًا وأبدًا قدمت على غيرها ، وصار لها هذه الميزات وهذه الأمور التي جاءت في الأحاديث والتي أشرت إليها (شرح الأربعين النووية ش7).
كل عمل مخالف للشرع مردود ولو كان قصد صاحبه حسنًا: عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللهِ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ : (مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ). الحديث يدل بعمومه على أن أي عمل يُعمل وهو خلاف السنة ومبني على بدعة أنه لا عبرة به ولو كان قصد صاحبه حسنًا ، لا يكفي في الاتيان بالعمل أن يكون قصد صاحبه حسنًا بل لابد مع حسن القصد أن يكون ذلك العمل على وفق السنة ، فإذا أوتي بالعمل على خلاف السنة ولو كان قصد صاحبه حسنًا فإنه مردود عليه لعموم قوله ﷺ ، الرسول ﷺ ما ميز وقال : أن من قصده حسن يكون كذا ومن ليس فقصده حسن يكون كذا ، بل عمم وأطلق وقال : (من أحدث في أمرنا ماليس منه فهو رد) ، وكثير من الناس يقدمون على ما يقدمون عليه من البدع وقصدهم حسن ، لكنهم ما وفقوا ، حيل بينهم وبين التوفيق ، وصرفوا عن التوفيق ، وليس كل من يكون قصده حسنًا يكون عمله مقبولاً ، بل لابد من شرط القبول أن يكون العمل على وفق السنة ، وقد جاء في السنة وا يدل على ذلك ، فمن ذلك أن أحد أصحاب رسول الله ﷺ ذبح أضحيته قبل وقت صلاة العيد وكان يريد من وراء ذبحها في هذا الوقت أن تطبخ الأضحية ، ويكون اللحم عند الفراغ من صلاة العيد جاهزًا ، فتكون أضحيته أول ما يأكله الناس وهم بحاجة إلى الطعام وبحاجة إلى اللحم ، قصده طيب ، لأنه يريد أن يكون أسبق من غيره إلى تقديم الطعام للمحتاجين وذلك بأنه ذبحها قبل صلاة العيد وأمر أهله بطبخها ، وإذا فرغ الناس من الصلاة وإذا هي جاهزة يأكلها الناس يأكلها المحتاجون إليها ويستفيدون منها ، الرسول ﷺ لما علم بهذا قال له : (شاتك شاة لحم) يعني معناه ما هي بأضحية ، لأنها لم تقع على وفق السنة ، والعمل لابد في اعتباره أن يكون على وفق السنة ، فإذا ذبحت قبل صلاة العيد معناها أنه ذبحت في غير وقت الذبح فلا تكون أضحية ، فتكون شاة لحم ، يعني من جنس الذبائح التي الناس يذبحونها ليأكلوا اللحم ، ولا يعتبر قربة وطاعة ، لأنه قربة وطاعة في يوم العيد وأيام التشريق ، والذبح يبدأ بعد صلاة العيد ولا يكون قبل صلاة العيد ، ولهذا روي أن صلاة العيد في الأضحى تعجل بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت الذبح ، وصلاة عيد الفطر تؤخر يعني شيئًا بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت إخراج زكاة الفطر ، لأن أفضل أوقات إخراج زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة ، فإذا أخرت الصلاة يعني شيئًا يسيرًا بعد دخول وقتها اتسع للناس وقت إيتاء زكاة الفطر ، فإذًا الرسول ﷺ قال للذي ضحى قبل الصلاة : (شاتك شاة لحم) يعني ماهي بأضحية ما وقعت قربة لأنها ما وقعت طبقًا للسنة ، والسنة الأضحية لها وقت ، لها بداية ولها نهاية ، من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس في آخر أيام التشريق أربعة أيام يوم العيد وثلاثة أيام بعده ، يوم العيد العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر هذه أيام الذبح ، وهذا وقتها ، فلا تقدم على وقتها ، ولا تذبح قبل وقتها ، فقال له النبي ﷺ : (شاتك شاة لحم) وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح هذا الحديث عن بعض أهل العلم أنه قال : ” وفي هذا دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا كان موافقًا للشرع ، ولا يكفي حسن قصد الفاعل – يعني أن يكون قصد صاحبه حسنًا – لا يكفي ، لأن الرسول ﷺ قال لهذا الصحابي شاتك شاة لحم ولم يعتبر حسن قصده وتكون أضحيته وقعت موقعها ووقعت معتبره ، بل أخبر بأنها شاة لحم بأنها ما وقعت في الوقت الذي شرع فيه ذبح الأضاحي ، ومما يدل على ذلك أيضًا أنا أبا عبدالرحمن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – صاحب رسول الله ﷺ بلغه أن أناس متحلقون في المسجد وبأيديهم حصى وفي كل حلقة شخص ، يقول لهم كبروا مئة هللوا مئة سبحوا مئة احمدوا مئة ، فإذا قال كبروا مئة صاروا يعدون بالحصى الله أكبر الله أكبر حتى يخلصوا ، ثم يقول هللوا مئة لا إله إلا الله ويعدون بالحصى ، فوقف على رؤسهم أبو عبدالرحمن – رضي الله عنه – وقال : ما هذا يا هؤلاء ؟ عدوا سياتكم فإني ظامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، وقال: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة ، واحدة من اثنتين إما هذه وإما هذه ، إما أنكم أحسن من أصحاب الرسول ﷺ وعندكم طريقة أحسن من طريقة أصحاب رسول الله ﷺ ، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة ، فهموا أن الطريقة الأولى لا سبيل لهم إليها ولا يمكن أن يكونوا أحسن من أصحاب الرسول ﷺ وأن يكونوا خيرًا من أصحاب رسول الله ﷺ ، إذن بقيت الثانية وهي أنهم مفتتحوا باب ضلالة ، فقالوا سبحان الله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير ، فقال – رضي الله عنه – : وكم من مريد للخير لم يصبه ، ماهي القضية قضية إرادة خير وقصد حسن بل القضية متابعة ، لأن من شرط العمل المقبول عند الله : أن يكون خالصًا لله وأن يتبع فيه رسول الله ﷺ ، وقد عرفنا الأثر الذي مر عن مالك وكذلك الأثر الآخر الذي يقول : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، ومعلوم أن أولها وهم الصحابة إنما صلحوا باتباع الرسول – عليه الصلاة والسلام – والعمل وفقًا لسنته مع حذرهم من البدع ومع بعدهم عن البدع وبهذا صلحوا ، ولا يمكن لغيرهم أن يصلح إلا بسلوك هذا المسلك الذي سلكوه ، والمنهج القويم الذي طرقوه (شرح الأربعين النووية ش9).
حكم القاضي لا يجعل الحرام حلالاً : النبي ﷺ قال : (ليس عليه أمرنا) فإذا كان الحاكم حكم بشيء والمحكوم له يعلم بأنه ليس محقًا في الشيء الذي حكم له به بأن يكون مثلاً مبنيًا على شهادة زور ، والحاكم حكم له ، وهو يعلم بأن الحق الذي وصل إليه وصل إليه من طريق محرم ، فلا يغير حكم الحاكم الأمر ، ويقول : ما دام حكم الحاكم يكون حلالاً ، لا ، ليس حلال ؛ هو حرام ولو حكم الحاكم ، الحاكم لا يعلم الغيب ، والرسول ﷺ كما جاء في الحديث قال : (إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) ، يعني معنى ذلك أن حكم الحاكم لا يقال أنه شيء نهائي وأنه يحل ما كان حرامًا ، بل حكم الحاكم لا يعلم الغيب ، وإذا حكم بشيء على وجه يعلم المحكوم له بأنه مبطل وليس محقًا في ذلك فإن ذلك الحكم لا يغير شيئًا ، ولا يفيد الإنسان ، وليس عذرًا للإنسان يقول قضى لي القاضي ، لأن مجرد حكم القاضي إذا كان الإنسان يعرف أنه على باطل لا يغنيه شيئًا (ش9).
من السلامة في دين المسلم وعرضه ترك ما يشتبه على المسلم: بين – عليه الصلاة والسلام – حكم الأمور المشتبهة ، فقال : (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ، (فمن اتقى الشبهات) أي : الأشياء المشتبهة التي لا يدرى هل هي حلال أم حرام ، (فقد استبرأ لدينه) يعني : عمل على براءة نفسه من أن يحصل عنده نقص في الدين ، أو يعرض نفسه للكلام من بعض الناس ، لأن بعض الناس قد يكون عنده علم بأن ذلك حرام ووقف على الدليل ، ثم رأى بعض الناس يفعل ذلك الشيء فيكون ذلك سببًا للنيل منه والكلام في عرضه ، ولهذا إذا ترك المسلم الشيء الذي فيه اشتباه ولم يظهر له دليله ، ولم يقف على دليله فإنه يكون بذلك أخذ بأسباب السلامة فيما يتعلق بدينه فيما بينه وبين الله ، وفيما يتعلق بعرضه فيما بينه وبين الناس (ش10).
المكاسب الطيبة والحرص على سلامتها سبب لصلاح القلب: المكاسب الطيبة والحرص على سلامتها ، وأن تكون بعيدة من المحرمات ومن الأمور المشتبهات أن ذلك له دخل في صلاح القلب وفساده ، لأن استعمال الحرام والوقوع في الحرام هو الذي يكون به فساد القلب، والابتعاد عن الحرام وفعل ماهو مشروع هذا هو الذي يكون به صلاح القلب ، لأن القلب يصلح باستقامة صاحبه على طاعة الله وطاعة رسوله – عليه الصلاة والسلام – وأن يفعل المأمورات وينتهي عن المنهيات (ش10).
الأحاديث مقسمة :