قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) سورة النحل ، قوله: (وَلَقَدْ) : اللام موطئه لقسم مقدر، وقد: للتحقيق، وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد، قوله: (بَعَثْنَا) أي: أخرجنا، وأرسلنا (فِي كُلِّ أُمَّةٍ) والأمة هنا: الطائفة من الناس، وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معانٍ: أ- الطائفة: كما في هذه الآية، ب- الإمام، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ) [النحل: 120]، ج- الملة: ومنه قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) [الزخرف: 23]، د- الزمن: ومنه قوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف: 45]، فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد ﷺ، • والحكمة من إرسال الرسل: أ- إقامة الحجة: قال تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، ب- الرحمة: لقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، ج- بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على لوجه التفصيل إلا عن طريق الرسل، قوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أن: قيل تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كفوله تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون: 27]، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه، وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي: بأن اعبدوا، والراجح الأول؛ لعدم التقرير، أي: تذللوا له بالعبادة، وسبق تعرف العبادة، قوله: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاورة الحد؛ كما في قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [الحاقة: 11]؛ أي: تجاوز حده، وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: “ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع”، ومراده من كان راضياً بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه؛ لأنه تجاوز به حده حيث نَزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك، فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء، والمعبود مثل: الأصنام، والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء: 51]، ولم يقل: إنهم طواغيت، ودلالة الآية على التوحيد: أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله، والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما: 1- الإثبات، 2- النفي، إذ النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة، مثال ذلك: زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به، ولم يقم أحد، هذا نفي محض، ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي، قوله: “الآية” أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى آخر الآية، ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، (القول المفيد على كتاب التوحيد ص20).
قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) الله أكبر!، (ولقد) عندنا يا إخوة هنا ثلاث مؤكدات، ربنا سبحانه يؤكِّد لنا، ولو قال الله لنا بغير مؤكِّد لصدقناه وآمنا؛ لكن لعظم شأن ما في هذه الآية أكده الله بثلاث مؤكدات: الأمر الأوّل: القسم المقدَّر؛ التي تدل عليه اللام الموطِّئة للقسم. والثاني: اللام. والثالث: قد. فهذه كلها مؤكِّدات، (ولقد بعثنا) أي: أرسلنا، (في كل أمة) أي: في كل طائفة (رسولًا)، وهذا يدل على أنّ الله – عز وجل- بعث في كل الأمم رسلًا؛ (وإنْ مِنْ أُمَّةٍ إلَّا خَلا فيها نَذير)، ما من أمة وُجدَت إلا أرسل الله لها نذيرًا، أرسل لها رسولًا، ما وظيفة الرسل؟؛ (أنِ اعبُدوا الله واجتنِبوا الطاغوت)، (أنِ اعبدوا): قال بعض أهل العلم: معنى “أن” هنا: بأن؛ فنقدِّر قبل أن “بـ”، ما الدليل على هذا التقدير؟، قول الله عز وجل: (بعثنا)، أنا أقول لك: بعثتك بالرسالة إلى أخي، أو: بعثتك بالمال إلى صديقي، فلمّا قال الله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا)؛ جاء بيان ما بُعِث به الرسل فقدَّرنا بـ(أن)؛ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا) بماذا؟ بأنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، وقال بعض أهل العلم: إنّ “أن” هنا تفسيرية؛ تفسِّر ما بُعِث به الرسل، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) إذن؛ الرسل جميعًا أَمروا بالتوحيد، وعبادة الله هي التوحيد، كما تقدم معنا، (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) اجتنبوا: أي جانبوه ومِيلوا عنه ولا تقربوه، وسنبيّن كيف يكون هذا بعد أن نفسِّر معنى الطاغوت، إذن؛ ما هي وظيفة الرسل الأصلية التي بُعِث بها الرسل؟ أن يأمروا بالتوحيد وأن ينهَوا عن الشرك، والطاغوت هنا: من الطغيان، والطغيان: هو مجاوزة الحد، وأحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم رحمه الله: كل ما تجاوز به العبد حدَّه؛ مِن معبود، أو متبوع، أو مطاع، وانتبهوا هنا يا إخوة؛ فإنّ المسألة أشكلت على كثير من أهل العلم، لماذا؟ لأنّا وجدنا ممن يُعبَد من دون الله: الرسل عليهم السلام، اليهود يعبدون عزيرًا، والنصارى يعبدون عيسى عليه السلام، ووجدنا من يَعبد الملائكة عليهم السلام، فهل هؤلاء يسمَّون طواغيت؟ لأنّ ابن القيم ماذا يقول؟ كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع! فقال بعض أهل العلم: إنّ هؤلاء لا يسمَّون طواغيت؛ فلابد من تقييد كلام ابن القيم؛ فيُزاد فيه: “ورضي بذلك”؛ حتى يخرج الأنبياء عليهم السلام، ويخرج الملائكة عليهم السلام، والذي يظهر لي -والله أعلم- أنّ عندنا أمرين: 1. اتخاذ الطاغوت، 2. الطاغوت في حقيقته، أن يتخذ الناس طاغوتًا؛ فيكون هذا طاغوتًا باعتبار اتخاذ الناس له، لا باعتبار حقيقته، وهذا يدخل فيه كل من عُبد من دون الله، ولكنه في ذاته ليس طاغوتًا، في حقيقته ليس طاغوتًا؛ لكنّ الذين عبدوه اتخذوه طاغوتًا؛ ولذلك قال ابن القيم: “كل ما تجاوز به حدَّه”، حدَّه: يعني المعبود ليس العبد، يرجع إلى المتجاوَز به وليس المتجاوِز، لماذا يا إخوة؟ ندرك جميعًا أنّ كل مخلوق من مخلوقات الله له حدّ، فإذا جاء إنسان وتجاوز بهذا المخلوق حدَّه فقد اتخذه طاغوتًا وإن لم يكن هو في حقيقته طاغوتًا؛ لكن هو بالنسبة للمتخِذ، (كل ما تجاوز به العبد حدَّه مِن معبود) عبادة الأصنام، عبادة الأشجار، عبادة الملائكة، عبادة الأنبياء، عبادة الأولياء، دخلت في هذا؛ باعتبار المتخِذ لا باعتبار المتخَذ، (أو متبوع) كمشايخ الضلال؛ الذين يقولون للناس: لا تذهبوا إلى دروس العلم ودروس التوحيد، هؤلاء وهابية، ضُلَّال، كفار! تعالوا عند القبور، تريد الولد؛ الوهابية يقولون لك: قل: يا الله يا الله! ما يأتيك ولد، تعال عندنا عند سيدي فلان، تأتي عند صاحب القبر تقول: يا سيدي فلان المدد، يا سيدي فلان الولد! يأتيك الولد، فيتَّبعهم بعض الناس، هؤلاء طواغيت؛ لأنّ هؤلاء اتخذوهم طواغيت، فاتَّبعوهم فيما يقولون، (أو مطاع) مطاع في تحليل ما حرم الله مع العلم بتحريمه، أو تحريم ما أحل الله مع العلم بحله، فيسمع في القرآن: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: الآية 18]، فحرّم الله أن ندعوا أحدًا مع الله، فيأتي شيخ يقول: لا، لا، الأولياء هؤلاء وسائط، زلفى، ندعوهم لنتقرب إلى الله! فيأتي إنسان عَلِمَ الآية وعرفها ويطيعه في هذا!! أو علم أنّ الربا حرام، لكن يأتي عالم من علماء السلاطين ويوجد علماء من علماء السلاطين، وإن كان من الضُّلال من يتَّهم العلماء الربانيين الذين يَقفون عند الأدلة بأنهم من علماء السلاطين، وهذا جهل وظلم، لكن يوجد علماء سلاطين يقولون بما يقوله السلطان، إذا قال: النصارى واليهود وكلُّ شخص قلبه طيب هو في الجنة، قالوا: نعم! لأنّ الريس قال هذا، لأنّ السلطان قال هذا!، فجاء عالم من علماء السلاطين قال: هذا المال الذي يوضَع في البنوك وتؤخَذ عليه فوائد هذا ليس ربا، حلال!، فأطاعه في هذا مع علمه بأنه ربًا وأنّ الربا حرام، هذا اتخذه طاغوتًا في هذا الأمر، وعلى هذا المعنى: هل كل طاغوت كافر؟ ، لا، لأنه طاغوت باعتبار المتخِذ لا باعتبار المتخَذ، لا باعتبار حقيقته، وعندنا المقام الثاني: وهو الطاغوت في ذاته، وهذا في الحقيقة هو: مَن عُبِد من دون الله وهو راضٍ أو غير كاره، هذا طاغوت في حقيقته، نسميه طاغوتًا، مَن عُبِد من دون الله وهو راضٍ أو غير كاره…. (شرح كتاب التوحيد ش2).
قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) هذه الآية لبيان أن التوحيد الذي هو حق الله على العبيد هو الغاية من بعثت الرسل ، وأن الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوتهم واحدة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له ، وأول ما يبدأ به الأنبياء أقوامهم الدعوة إلى توحيد الله (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) ، أول كلمة تقرع سمع الأقوام من أنبياءهم هي هذه الكلمة (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) ، والتوحيد هو زبدة دعوة المرسلين وخلاصة رسالتهم وصفو دعوتهم، ولهذه الآيات نظائر في القرآن؛ كقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، وقول الله سبحانه وتعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ، وقول الله سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) أَي الرسل (مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ، فالرسل من أولهم إلى آخرهم بعثوا لهذه الغاية وأرسلوا لهذا المقصد ، وقوله : (وَلَقَدْ) فيه تأكيدان : باللام ، وقد ، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا) وهذا فيه قيام الحجة ببعثة المرسلين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ، فبعث الرسل تترا ووالى سبحانه وتعالى بين الرسل وبعث في كل أمة رسولاً لإقامة الحجة وإزالة المعذرة وإبانة السبيل ، وقد بلغ الرسل البلاغ المبين ، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا) لماذا؟، ما المقصد من ذلك؟، ما الغرض من ذلك ؟، ما الغاية من ذلك ؟ ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ، وهذا هو التوحيد : النفي والاثبات ، قوله تبارك وتعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) هذا هو الغاية التي لأجلها أرسل الرسل ، وهو معنى (لا إله إلا الله) ، لأنه قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) هو مدلول الإثبات في قوله: (إلا الله) ، وقوله : (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) هو مدلول النفي في قوله : (لا إله) فقوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) هذا مدلول كلمة التوحيد لا إله إلا الله ، وقد مر معنا في الآية الكريمة قول الله سبحانه : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) هذا هو المفسر هنا بقوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ، فهناك ذكرت كلمة التوحيد بلفظها ، وهنا ذكرت كلمة التوحيد بمعناها ، فـ (لا إله إلا الله) معناها: (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ، وقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) : أي أخلصوا العبادة لله سبحانه وتعالى فأفردوه بها ، والعبادة لا تكون عبادة إلا بالتوحيد كما مر، وهذا يُنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول : «كل أمر بالعبادة أمر بالتوحيد» ، وقوله: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أبلغ من قول “اتركوا عبادة الطاغوت” ، لأن (وَاجْتَنِبُوا) فيها قدر زائد على الترك ألا وهو : المباعدة والمبالغة في الابتعاد والحذر الشديد ؛ وهذا هو المطلوب من المسلم أن يبتعد غاية الابتعاد وأن يحذر غاية الحذر من عبادة الطاغوت، وتأمل هذا المعنى في دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) أي اجعلني في جانب بعيد عن الأصنام وعن عبادتها ، وهذا هو الواجب على المسلم تجاه هذه الكبيرة التي هي أعظم الكبائر ، والمعنى هذا أيضاً جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : (اجتنبوا السبع الموبقات) وصدرها بكبيرة الشرك بالله التي هي أعظم الكبائر وأشد الظلم وأكبر الجرائم على الإطلاق ، والطاغوت : مشتق من الطغيان ؛ وهو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، والسلف رحمهم الله في كتب التفسير لهم عبارات وألفاظ كثيرة في شرح معنى الطاغوت والمراد به، لكنها كلها تجتمع في هذه الخلاصة التي ذكرها ابن القيم – رحمه الله – ملخصاً فيها عبارات السلف في تفسير الطاغوت بقوله : ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ؛ من الطغيان وهو تجاوز الحد، ومن عُبد من دون الله وهو راضي فهو طاغوت، ومن عبد من دون الله وهو غير راض كالأنبياء والملائكة والصاحين من عباد الله لا يضرهم ذلك ، والطاغوت هنا هو الشيطان لأنه هو الذي دعا الناس إلى عبادة هؤلاء فأطاعوه ، وأما الأنبياء والأولياء والصالحين من عباد الله سبحانه وتعالى فلا يضرهم ذلك ، بل إنهم يبرؤون إلى الله سبحانه وتعالى ويتبرؤون من ذلك ، وهذا لا يضرهم ، والطاغوت هنا : الشيطان الذي دعاهم إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى فأطاعوه، (شرح كتاب التوحيد ش1)
قال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل]، يُخبرِ سبحانه وتعالى أنه بعث في كل أمَّة، و (الأمَّة) معناها: الجماعة والجيل والطائفة من النَّاس {فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}، و (الرَّسول) هو: من أوحي إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه، والرُّسل كثيرون، منهم من سَمّى الله – جل وعلا- لنا في القرآن، ومنهم من لم يُسَمِّ لنا {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}، فنحن نؤمن بجميع الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمى الله لنا ومن لم يسمّ، والإيمان بالرُّسل أحد أركان الإيمان الستَّة، رسولاً لأيِّ شيء؟، {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، هذا مثل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، فكما أنَّ الله خلق الخلق لعبادته كذلك أرسل الرسل – أيضاً – لعبادته سبحانه وتعالى، ما أرسل الرُّسل يعلمون النَّاس الفلاحة والزراعة والصناعة، ولا ليعلموهم الأكل والشرب، ولا ليعلموهم أن يقروا بوجود الرب والربوبية، إنَّما أرسل الرُّسل ليأمروا النَّاس بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي هو ربهم، والذي يعترفون أنَّه ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} هذا أمر، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر بمعنى النهي، والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، وهو: مجاوزة الحَدّ في كلِّ شيء، والطاغوت يُطلق ويُراد به الشيطان، وهو رأس الطواغيت – لعنه الله -، ويُطلق ويُراد به السَّاحر والكاهن، والحاكم بغير ما أنزل الله، والذي يأمر النَّاس باتباعه في غير طاعة الله، فالطاغوت – كما يقول ابن القيم -: (كل ما تجاوز به العبد حَدّه من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله فهو طاغوت)، فالله أمرنا بعبادته سبحانه وتعالى واجتناب الطاغوت، والـمراد بالطاغوت هنا: كلُّ ما عُبِد من دون الله من الأصنام والأوثان، والقبور والأضرحة وغير ذلك، كلها تسمى طواغيت، لكن من عُبد من دون الله ولم يرضَ بذلك فهذا لا يُسمى طاغوتاً، مثل: عيسى عليه السلام؛ كذلك: عباد الله الصالحين كالحسن والحسين، والأولياء الذين لم يرضوا أن يُعبَدوا من دون الله؛ هؤلاء لا يسمون طواغيت، ولكن عبادتهم عبادة للطاغوت الذي هو الشيطان، فهؤلاء الذين يعبدون الحسين وأمثاله، هؤلاء يعبدون الشيطان؛ لأنَّه هو الذي أمرهم بهذا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}، يعني: الشياطين، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}، فـ {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} يعني: كل ما يُعبد من دون الله عز وجل، وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فهذا هو معنى “لا إله إلاَّ الله”، لأن “لا إله إلاَّ الله” معناها: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، مثل قوله: {اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} نفيٌ وإثبات، ولاحظوا قوله:{وَاجْتَنِبُوا}، ما قال: اتركوا عبادة الطاغوت؛ لأنَّ “اجتنبوا” أبلغ؛ يعني: اتركوا كلّ الوسائل التي توصِّل إلى الشرك، والاجتناب أبلغ من الترك، فالاجتناب معناه: أننا نترك الشيء ونترك الوسائل والطرق التي توصِّل إليه، فهذه الآية فيها: أنَّ الرُّسل بُعثوا بالتَّوحيد، الذي هو عبادة الله وترك عبادة الطاغوت، من أولهم إلى آخرهم، إذاً جميع الرُّسل جاءوا بالدعوة إلى التَّوحيد والنهي عن الشِّرك، هذه مِلَّة الرُّسل- عليهم الصَّلاة والسَّلام-، وهي مِلَّة واحدة، وإن اختلفت شرائعهم، إلاَّ إنَّ أصل دينهم وعقيدتهم هو: التّوحيد، وعبادة الله في كلِّ وقت بما شرع، فمثلاً: الصَّلاة إلى بيت الـمقدس في أوّل الإسلام؛ عبادة لله، لأنَّ الله أمر بها، لكن بعدما نُسِخَت وحُوِّلَت القِبلة إلى الكعبة صارت العبادة هي الصَّلاة إلى الكعبة، والصَّلاة إلى بيت الـمقدس أصبحت منتهية، فمن صلى إلى بيت الـمقدس بعد النسخ يُعتَبر كافراً، فعبادة الله في كل وقت بما شرعه في ذلك الوقت، وإذا نُسِخ فإنَّه يُنتَقَل إلى النَّاسخ ويتُرك الدِّين الـمنسوخ، فدين الرُّسل واحد وإن اختلفت شرائعهم، وقد شبههم النَّبيّ ﷺ بالإخوة لعلات، وهم الإخوة من الأب، أبوهم واحد ولكن أمهاتهم مختلفات، كذلك الرُّسل دينهم واحد وشرائعهم مُختلفة، حسب حِكمة الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الله يَشرع لكلِّ وقت ما يناسبه، ولكلِّ أمَّة ما يُصلحها وهو أعلم سبحانه وتعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فما دام الدِّين لم يُنسخ فهو عبادة لله، وإذا نُسِخ فالعبادة لله هي الانتقال إلى النَّاسِخ وترك الـمنسوخ، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ} يعني: منهم من أجاب الرسل، ومنهم من أبى، و{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} القدر السابق الـمقدّر باللوح الـمحفوظ بسبب كفره وعناده، [إعانة الـمستفيد بشرح كتاب التوحيد ج1/ص74].