3 – تفسير قوله تعالى : {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً}

عدد الملفات المرفوعه : 4

قوله: (وَقَضَىٰ) قضاء الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: قضاء شرعي، قضاء كوني، فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من الـمقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله، مثال ذلك: هذه الآية: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)؛ فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما، والقضاء الكوني: لابد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه، مثال ذلك: قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) (الإسراء: 4) فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه، قوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا)،  (أَلَّا) هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا، قوله: (إِلَّا إِيَّاهُ) ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن الـمتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك في الألفية (ص:12):

وذو اتصال منه ما لا يبتدا   ولا يلي إلا اختياراً أبدا

إشكال وجوابه: إذا قيل: ثبت أن الله قضى كوناً ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟؛ فالجواب: أن الـمحبوب قسمان: محبوب لذاته، ومحبوب لغيره، فالـمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يُحَب لـما فيه من الحكمة والـمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوباً من وجه، مكروهاً من وجه آخر، مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا الـمفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوباً إلى الله عز وجل من وجه آخر، ومن ذلك: القحط، والجدب، والـمرض، والفقر؛ لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم الـمترتبة عليه؛ فيكون محبوباً إلى الله من وجه، مكروهاً من وجه آخر ، قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه مكروهاً من وجه آخر؟؛ فيقال: هذا الإنسان الـمريض يعطى جرعة من الدواء مُرَّة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لـما فيها من الـمرارة واللون والرائحة، ويحبها لـما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي الـمريض بالحديدة الـمحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه أخر، فإن قيل: لـماذا لم يكن قوله: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) من باب القضاء القدري؟، أجيب: بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاءً قدرياً لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع، والخطاب في الآية للنبي ﷺ، لكن قال: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، ولم يقل (أن لا تعبد)، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) (الطلاق: 1)؛ فالخطاب الأول للرسول ﷺ والثاني عام؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب؟، أجيب: إن الفائدة من ذلك: التنبيه؛ إذ تنبيه الـمخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب، أن النبي ﷺ زعيم أمته، والخطاب الـموجه إليه موجه لجميع الأمة ، الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول ﷺ فهو له ولأمته؛ إلا ما دلّ الدليل على أنه مختص به، وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي ﷺ مربوب لا رب، عابد لا معبود؛ فهو داخل في قوله: (تَعْبُدُوا)، وكفى به شرفاً أن يكون عبداً لله عز وجل ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا) (البقرة: 23)، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ) (الفرقان: 1)، وقال في مقام الإسراء والـمعراج: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) (الإسراء: 1)، (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) (النجم: 10).

أقسام العبودية: تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام: عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (مريم: 93)، ويدخل في ذلك الكفار، عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: 63)، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه ، خاصّة الخاصّة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء: 3)، وقال عن محمد ﷺ: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا) [البقرة: 23]، وقال في آخرين من الرسل: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (ص: 45)، فهذه العبودية الـمضافة إلى الرسل خاصة الخاصة؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية، قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانًا، والوالدان: يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان، بذل الـمعروف، وفي قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) بعد قوله: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله عز وجل ، فإن قيل: فأين حق الرسول ﷺ ؟ ، أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول ﷺ؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول g، وقوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ) أي: كف الأذى عنهما؛ ففي قوله: (إِحْسَانًا): بذل الـمعروف، وفي قوله: (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ): كف الأذى، ومعنى (أُفٍّ): أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذّيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئاً على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في الـمقال إذا أساءا في الفعل أو القول، قوله: (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) أي: لينا حسناً بهدوء وطمأنينة؛ كقولك: أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي، أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجاً كرفع الصوت مثلاً، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما، والشاهد في هذه الآية: قوله تعالى: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)؛ فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات (القول المفيد على كتاب التوحيد ص 21).

القضاء له عِدَّة معان، منها: القضاء والقدر، ومنها: الحُكم والشَّرع، ومنها: الإخبار {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} يعني: أخبرناهم، ومنها: الفراغ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} يعني: فرغتم منها، فالقضاء له عدَّة إطلاقات، الـمراد منها هنا: الأمر والشَّرع، و{وَقَضَى} معناه: شرع {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، والله لم يشرع عبادة غيره أبداً، لم يشرع عبادة الأصنام، ولم يشرع عبادة الأولياء والصَّالحين، ولم يشرع عبادة الأضرحة والقبور، ولم يشرع عبادة الأشجار والأحجار، أبداً، هذا شرعه الشَّيطان، أمَّا شرع الله فهو عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، وهذا هو معنى “لا إله إلاَّ الله”، {أَلاَّ تَعْبُدُوا} هذا نفي، {إِلاَّ إِيَّاهُ} هذا إثبات، فهو معنى “لا إله إلاَّ الله” تماماً، ولـمَّا أمر بحقه سبحانه أمر بحقِّ الوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فيأتي حقُّ الوالدين بعد حقِّ الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ لأنَّ الوالدين هما أعظم مُحسِنٍ عليك بعد الله سبحانه، ومعنى {إِحْسَاناً} يعني: أحسن إليهما كما أحسنا إليك، والشَّاهد من الآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} لأنَّها تُفسِّر التَّوحيد، وهو: عبادة الله وترك عبادة ما سواه، هذا هو التَّوحيد، أمَّا عبادة الله بدون ترك عبادة ما سواه فهذا لا يسمى توحيداً، فالـمشركون يعبدون الله ولكنَّهم يعبدون معه غيره فصاروا مشركين، فليس الـمهم أنَّ الإنسان يعبد الله فقط، بل لابدَّ أن يعبد الله ويترك عبادة ما سواه، وإلاَّ لا يكون عابداً لله، ولا موحِّداً، فالذي يُصلي ويصوم ويحج ولكنَّه لا يترك عبادة غير الله ليس بمسلم، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجّه؛ لأنَّه لم يمتثل قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} يعني: لا تعبدوا معه غيره، وفي الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى أنَّه يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وفي رواية: (فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء).

بدء الله عز وجل بالتوحيد الذي هو أعظم المطالب وأجل الغايات، قال : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، والقضاء هنا هو القضاء الشرعي ، لأن القضاء يرد في القرآن تارة يراد به القضاء الكوني كقوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) ، وتارة يراد به القضاء الشرعي الديني كما في هذه الآية ؛ وعليه فقوله تعالى : (وَقَضَىٰ رَبُّكَ) أي : أمر ووصى وشرع وأوجب ، (وَقَضَىٰ رَبُّكَ) : أي وصى بذلك وقضى بذلك شرعاً وديناً ؛ (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) هو معنى ومدلول كلمة التوحيد لا إله إلا الله ، وهي قائمة كما عرفنا على النفي والإثبات ، ولا توحيد إلا بهما ؛ من تفى ولم يثبت لا يكون موحداً ، ومن أثبت ولم ينف لا يكون موحداً ، فالتوحيد نفي وإثبات لا إله إلا الله ، مدلول هذه الكلمة هو (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، (أَلَّا تَعْبُدُوا) مدلول «لا إله» ، و (إِلَّا إِيَّاهُ) هذا مدلول «إلا الله» ، فنفى وأثبت وهذا هو التوحيد ، ومثله ما مر في قوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فيها النفي والإثبات : الإثبات في (اعْبُدُوا الله) ، والنفي في (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ، (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : أي شرع ووصى وأمر وأوجب أن يخلص له الدين ، وأن يفرد وحده بالعبادة ، وأن لا يُجعل معه شريك في شيء منها، وذكر بعد هذا جملة من الأوامر ، وسيأتي تنبيه المصنف رحمه الله في المسائل التي ساقها في خاتمة هذه الترجمة ، ومن طريقته – رحمه الله – أن يُتبع كل ترجمة بمسائل يبين ما ينبغي أن يتنبه له ويحرص على الاستفادة منه مما هو مستفاد من الآيات والأحاديث التي ساقها ، وسنقرأ بإذن الله تبارك وتعالى في نهاية كل ترجمة المسائل التي أوردها رحمه الله تعالى، بدأ هذه الأوامر بالأمر بالتوحيد وإخلاص الدين له ، وهي أوامر كثيرة أشار رحمه الله تعالى إلى أن عددها ثمانية عشرة أمراً ونهيًا – وسيأتي ذكر ذلك في المسائل – صدرها أو بدأت بالأمر بالتوحيد (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، والآية التي قبل هذه الآية قوله : (لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا * وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فصدرت هذه الأوامر والنواهي بالنهي عن الشرك والأمر بالتوحيد ، فأفاد ذلكم أن الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده وهو الشرك هو أعظم المطالب وأجلها على الإطلاق ، ولهذا به يبدأ كما في هذه الآية وفي آيات عديدة ساقها رحمه الله تعالى ، ذكر بعد هذا الحق العظيم حق الله على العباد حق الوالدين ، قال : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، فذكر حقهما عقب حقه وبعده ، وفي هذا دلالة أن حق الوالدين أعظم الحقوق بعد حق الله سبحانه وتعالى ، ولهذا قدَّمه على غيره من الحقوق والواجبات التي ذكرت في الآية ، وكثيراً ما يأتي في القرآن الكريم وكذلكم في أحاديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قرن حق الوالدين بحق الله ، كهذه الآية وكذلكم الآيات التي ساقها بعدها (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، (أن اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) والآيات في هذا المعنى كثيرة وكذلكم الأحاديث عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، وقوله : (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أطلق ولم يعين نوعاً من الاحسان ، ليتناول اللفظ بإطلاقه وعمومه كل إحسان ممكن ومقدور عليه قولي أو فعلي، وهذا من كمال الخطاب وعظم أيضاً دلالاته وشموله لكل وجوه الإحسان المقدور عليها ، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) : أي أحسن لهما ما استطعت في كل مجال وبكل طريقة وبكل أسلوب مقدور عليه أحسن إليهما ، ويأتي حق أعظم للوالدين عند بلوغهما أو أحدهما الكبر (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) ، وبلوغ الكبر فيه الضعف ووهن القوى والحاجة أيضاً إلى العون والمساعدة ، ولهذا جاء التأكيد على حق الوالدين والإحسان إلى الوالدين ولاسيما في هذا الحالة بلوغ الكبر ، وحقيقة وجود الأبوين أو والد الأبوين ، وجود كبار السن في البيوت وتوفيق الله سبحانه وتعالى لعبده للقيام بحقهما وعنايته بهذا الأمر هذا من أعظم المواهب ومن أجل العطايا والمنن التي يكرم الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده ، وآثار ذلك وثماره لا حصر لها ولا عد (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، لاحظ هذا التنبيه ولاسيما في حال الكبر ، لأن كبير السن في حال ضعفه في حال أيضاً أحياناً ضعف قواه وتفكيره وتعامله ، شدة ما يكون يعاني منه من أمراض أو نحو ذلك قد تفضي ببعض الناس إلى نوع من التضجر أو الملل من الوالد أو الوالدين أو نحو ذلك ؛ فجاء هذا التنبيه العظيم (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، و(أُفٍّ) هذه الكلمة نبه بها – وهي أقل ما يكون من الإساءة القولية – على ما هو أعظم من ذلك ، إذا كان في الآية نهي عن التأفف من الوالدين أو من أحدهما فكيف بما هو أعظم من التأفف من إساءة في القول أو إغلاظ في الكلام أو رعونة في التعامل أو نحو ذلك ؛ فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) والنهر : هو الزجر الإغلاظ في القول والإساءة في التعامل ، (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) : أي عندما تتحدث مع الوالدين تحدث بالقول الكريم ، وقوله : (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) هذا مقام منافسة في تخير أطيب الألفاظ وأحسن العبارات وأجمل الأساليب في مخاطبة الوالدين ، كثير من الناس إذا لقي أحد أصدقائه أو زملائه يجتهد اجتهاداً كبيراً ليختار له العبارة الجميلة “أخي الفاضل ، زميلي العزيز ، صديقي الكريم، لك عندي كذا ، وفي قلبي كذا .. ” إلى آخره ، وإذا دخل على أمه وجميلها عليه أعظم جميل وإحسانها إليه أحسن إحسان ما يحسن أن يختار لها أو ينتقي لها عبارات طيبة أو كلمات جميلة أو قول كريم ، وربما لو أن أحداً من الناس لو صنع له معروفاً ما أسره بمعروفه وإحسانه ، وأصبح كلما لقيه ذكر ذلك المعروف والإحسان فأحسن الخطاب وأجاد في التعامل ، وإحسان الأم إلى ولدها ما يقارن ولا يوازى ولا يُلحق فكيف ینسى ذلك الجميل، وكيف ينسى ذلك الإحسان، وكيف يكون القول الكريم للآخرين ولا يكون لها حظ منه ولا نصيب، ومن لطيف وجميل صنيع الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في كتابه المبارك الأدب المفرد – وهو كتاب عظيم في بابه باب الأدب والأخلاق – صدر هذا الكتاب بباب بر الوالدين، وأول حديث أورده في هذا الباب حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟، قَالَ: (الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا)، قُلْتُ ثُمَّ أَي؟، قَالَ: (بِرُّ الْوَالِدَيْن) إلى آخر الحديث ؛ منبهًا بذلك رحمه الله تعالى أن هذه الآداب المبثوثة في الكتاب والأخلاق العظيمة التي ذكرت في الكتاب أحق من يكون بها الوالدان ، (وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) أي أن التعامل معهما ينبغي أن يكون بخفض الجناح ولين الجانب واللطف في التعامل والبشاشة إلى غير ذلكم من المعاني العظيمة ، ثم العناية بالدعاء (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) أي حافظ واعتني بهذه الدعوة (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ، اسال الله عز وجل لهما الرحمة أحياءً كانوا أو أمواتاً ، وأكثر من هذا الدعاء العظيم الذي أمر الله به (وقل رَبِّ ارْحَمْهُمَا) فاعتني بهذا الدعاء العظيم الذي أمر الله سبحانه وتعالى به في هذا المقام ؛ مقام بر الوالدين والإحسان إليهما (وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صغيرًا) ؛ (كما ربياني) تذكر للإحسان والجميل السابق ، وهذا – أيها الإخوة الكرام – أعظم عون للعبد على البر ، وإذا غفل الإنسان عنه ضعف بره وضعف إحسانه ، وكلما كان مستحضراً الجميل السابق والإحسان العظيم الذي من الوالدين فإنَّ هذا من أعظم ما يعينه على البر والإحسان وكثرة الدعاء (كما ربياني صغيرًا) (شرح كتاب التوحيد ش1).

قال الله تعالى : {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)} سورة الإسراء، هذه الآية العظيمة التي ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنها من الآيات المحكَمات في كتاب الله عز وجل؛ كما روى عنه ابن جرير، رحمه الله عز وجل، ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ﴿وَقَضَىٰ﴾ هنا: أي قضى قضاء شرعيًّا؛ لأنّ قضاء ربنا سبحانه وتعالى: -إمّا أنه قضاء كوني قدريّ، وهذا لا بد من وقوعه، والله يقضي كونًا وقدرًا ما يحب وما لا يحب، ولا بد من وقوعه، فالله قضى كونًا وقدرًا وقوع التوحيد من المؤمنين؛ وهذا يحبه سبحانه وتعالى، وقضى كونًا وقدرًا وقوع الشرك من المشركين؛ وهذا لا يحبه الله عز وجل، بل الله عز وجل يكرهه، وليس هذا هو المراد هنا، وإنما المراد هنا بالقضاء: القضاء الشرعي، – والقضاء الشرعي ضابطه: أنّ الله لا يأمر ولا يقضي شرعًا إلا بما يحِب، وأنّ هذا القضاء قد يقع وقد لا يقع، فنقول: قضى ربنا أن نعبده وأن نوحِّده؛ أي: أمرنا بأن نعبده وأن نوحِّده، فالله عز وجل يحب أن نعبده وأن نوحِّده، وهذا القضاء قد يقع وقد لا يقع؛ ولذا نرى من الناس من يؤمن، ونرى من الناس من لا يؤمن، ﴿وَقَضَىٰ﴾ قال بعض أهل العلم: معناها وصّى مُلزِمًا، وقال بعض أهل العلم: معناها أمر، وقال بعض أهل العلم: معناها ألزم، وكل هذه المعاني صحيحة، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ وتلحظون هنا أنّ الله عز وجل قال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ ما قال مثلًا: وقضى الله؛ بل قال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾؛ لأنّ في هذا فائدة عظيمة؛ فإنّ الذي قضى وأمر هو الرب، والرب هو المنعِم بجميع النعم، الذي ربانا بنعمه، سبحانه وتعالى، إذن هو مُستحق لأن يطاع، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ نفيٌ وإثبات، ﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ﴾ أيَّ معبود ﴿إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ سبحانه وتعالى، وهذا هو التوحيد، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فقرن الله عز وجل حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، فأعظم الحقوق: حق الله سبحانه وتعالى، هو أعظم الحقوق على الإطلاق، وقرن الله بهذا الحق: حق الوالدين، فإن قال قائل: فأين حق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم حق بعد حق الله سبحانه وتعالى؟، قال العلماء: حق النبي صلى الله عليه وسلم مضمَّن في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ التوحيد وعبادة الله لا تتحقق إلا بتحقيق الشهادتين: بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فكأنّ قائلًا قال: كيف أُحسِن إلى الوالدين؟، فبيّن الله عز وجل هذا الإحسان: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، فتحصَّل من هذا؛ أنّ الإحسان إلى الوالدين يكون: 1. ببذل المعروف، 2. وكف الأذى، 3. وإدخال السرور، 4. والدعاء لهما، 5. والتواضع لهما، لا تكون محسنًا لوالديك إلا بهذه الأمور الخمسة: 1. بذل المعروف، أين هذا من الآية؟ في قول الله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ هذا بذل المعروف، ويدخل فيه كل معروف، 2. وكف الأذى، أن تكف الأذى عنهما؛ صغيرًا كان أو كبيرًا؛ ولذلك قال الله: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَ﴾، فنهى عن الأذى الصغير والأذى الكبير، الأذى الصغير: أن تقول: أف، يقول لك: يا ابني أحضر لي كذا؛ تقول: أف، هكذا ما أحسنت إلى الوالد؛ لأنك ما كففتَ الأذى عنه، 3. والكبير: أن تنهرهما؛ فما فوق، كأن تقول: لا تطلب مني هذا أنت آذيتني، هذا نهر، فما فوق، هذا كف الأذى، 4. وإدخال السرور، إدخال السرور إلى قلب الأب وقلب الأم، ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ما هو القول الكريم؟، الذي إذا سمعاه طابت أنفسُهما؛ فيدخل السرور إلى قلبيهما بهذا الكلام، هذا القول الكريم، ما هو القول الكريم الذي أقوله لوالدي؟، هو القول الذي إذا سمعه طاب قلبه؛ يا أبتي، يا أبي، يا أبي غفر الله لك، يا أبي رحمك الله، ما يدخل السرور إلى قلبه، 5. والتواضع لهما؛ ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أن تتواضع لهما مهما بلغت من المنزلة، كان بعض العلماء يدرّس في مجلسه، فتناديه أمه، فيخرج من المجلس والطلاب يكتبون، ويذهب إلى أمه ويضع الحب للدجاج، ثم يعود إلى الدرس، جالس يدرّس الناس الحديث والسنة، فتناديه أمه: يا فلان، فيقوم، ماذا تريد أمه؟، تقول له: ضع الحب للدجاج، فيأخذ الحب ويضع الحب للدجاج طاعة لأمه ويرجع إلى درسه، فمهما بلغتَ يجب أن تتواضع لوالديك، ومن ذلك يا إخوة؛ أنه إذا جاءك طلاب العلم وأنت مع والدك، عليك أن تقدم والدك إلى صدر المجلس وتقول: هذا أبي، ولو كان عاميًّا من الناس، لا تقول: لا أنا طالب علم وهؤلاء طلاب علم وأبي عامي ما يعرف، ما تستحي من أبيك أبدًا مهما بلغتَ من منزلة، 6. والدعاء لهما، ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، قال العلماء: تُسمِعهما هذا الدعاء، وتدعو به في ظهر الغيب، تُسمعهما هذا الدعاء: لتجمع بين الدعاء لهما وإدخال السرور إلى قلبيهما، وتدعو به في ظهر الغيب: ليكون أبلغ في الإجابة، ووجه الدلاة من الآية: في قول الله: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾، فأول أمر، وأعظم أمر، وأعظم حق: هو توحيد الله سبحانه وتعالى (شرح كتاب التوحيد ش4).

 

  • 1445/11/12
  • مشاهدات : 38
  • مشاركة :
حقوق النشر لكل مسلم بشرط ذكر المصدر.
تنفيذ : تصميم مصري