٤٩٤١ – حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسَدَّدٌ الْمَعْنَى، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي قَابُوسَ، مَوْلَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» لَمْ يَقُلْ مُسَدَّدٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وقوله – عليه الصلاة والسلام – : (الراحمون يرحمهم الرحمن) هذا ترغيب في الرحمة ، ترغيب من النبي ﷺ في الرحمة بالخلق ؛ وذلك بذكره – عليه الصلاة والسلام – للأجر المعد لمن تحلى بهذا الخُلق الكريم وهو خُلق الرحمة ، (الراحمون يرحمهم الرحمن) فمن أحب أن يُرحم فاليرحم ، من أحب أن يُرحم من الخالق – سبحانه وتعالى – فاليرحم خلقه ، فاليرحم المخلوقين ، يرحم الضعفاء ، ويرحم الصغار ، ويرحم من ذل ووقف في موقف ذل بعد أن كان عزيزًا ، وهكذا ، فمن رحم هؤلاء فإن الله – سبحانه وتعالى – سيرحمه ، بنص هذا الحديث الثابت عن رسول الله ﷺ ، فهذا ترغيب ، في هذا الشطر من الحديث ترغيب في الرحمة ، وذلك بذكر الأجر المعد للرحماء ، وكما قلنا الرحمة اتصف الله بها ، واتصف بها رسوله ﷺ ، ووصف الله بها أيضًا عباده المؤمنين حينما ذكر أصحاب رسول الله ﷺ كما في قوله : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) فالرحمة من أخلاق أهل الايمان والسعادة ، وانتزاعها من أخلاق أهل الغلظة والفظاظة والشقاء – عياذًا بالله من ذلك – ، ثم حث النبي ﷺ وأمر بقوله : (ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء) وهذا أحد ألفاظ الحديث ، وفي بعضها : (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) فإذا قيل بهذا اللفظ (من) فإنها حينئذ تكون للعاقل ، فإن (من) لا يعبر بها إلا للعاقل ، ولفظنا هنا أعم (ارحموا أهل الأرض) فهي شاملة للعاقل وغير العاقل ، والمراد : الحث على رحمة الإنسان والبهيمة ، والحيوان ، الرحمة في هذا الجانب أيضًا مطلوبة ، فإن كلمة (أهل الأرض) تشمل الجميع ، كل من هو على الأرض يمشي ، ويدب من إنسان وحيوان ، فتدخل الدواب في هذا الباب ، ولا يخفى علينا جميعًا ما جاء في حديث الرجل أو البغي كما في اللفظ الآخر التي كانت في بني اسرائيل ، كل واحد منهما سقى كلبًا ، فالأول : الرجل الذي نزل بئرًا ، ثم شرب ، ثم صعد ووجد كلبًا يلهث ، فنزل فملأ خفه فطلع فسقى ذلك الكلب ، فشكر الله له ، وقالوا : يا رسول الله : وإن لنا في البهائم أجرًا ؟ ، قال : (في كل زاد كبد رطبة أجرًا) ، والمراة البغي من بني اسرائيل أنها سقت كلبًا ، فغفر الله لها ، هذا من الرحمة ، والإسلام دين الرحمة ، وأهل الإسلام هم الرحماء حقًا ، وفي هذا أعظم فخر لأهل الإسلام يفتخرون به ، إذ جاء دينهم السمح الكريم بالحث على هذا الخُلق العظيم ، قبل أن يأتي هؤلاء المتبجحون في هذه الأزمان ويتبجحون وينادون بالرحمة بالحيوان وهم يذبحون الإنسان ، يرحمون القطط ويذبحون بني آدم ، يقيمون قطة وكلبًا ويذبحون قرى ومدن بأكملها ؛ أين هذه الرحمة المدعاة المزعومة ، فالشاهد أن هذا الحديث فخر لأهل الإسلام ولله الحمد ، إذ دينهم دين الرحمة ، ودين العطف ، ودين الشفقة ، بخلاف هؤلاء الذين يتبجحون ، وهم أبعد ما يكونون عن الإلتزام بهذا ، فإن دينًا يُغفر لصاحبه فيه بسبب شربة كلب ، يشكر لصاحبه فيه بسبب إرواء عطش كلب ، يُغفر لبغي فيه بسبب إرواء ظمأ كلب إنه لدين عظيم يُستحق أن يُفتخر به ، وهذا هو ديننا ولله الحمد ، والنبي – عليه الصلاة والسلام – قد ضرب أروع الأمثلة في هذا ، كان ذات يوم – كما في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد وغيره – كان ذات يوم مع أصحابه في سفر ، فأدركهم المقيل فتفرقوا تحت الشجر ، فرأى بعض أصحاب رسول الله ﷺ طائرًا أو قبرة حول طيورها وفراخها ، فأخذ فراخها فجمعها في ثوبه ، فأخذت تحوم على رأسه ، ففتح لها الثوب فوقعت عليهم ، فضمها إليهم ، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ ، فرأى ذلك – عليه الصلاة والسلام – فأمره بإطلاقها – وفي بعض طرقه – أنها أخذت تحوم على رأس النبي ﷺ ، فقال – عليه الصلاة والسلام – (من فجع هذه بصغارها ، ردوا عليها صغارها) فردوها عليها – وهذا في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد وإسناده حسن ، ورأى – عليه الصلاة والسلام – قرية من النمل قد أحرقت – كما في سنن أبي داود والمسند أيضًا ومثل هذه القصة في الصحيح – فغضب النبي ﷺ وقال : (من فعل هذا؟) ، فجعل فاعله من أصحابه – رضي الله عنهم – يقول : أنا ويعتذر ، فقال – عليه الصلاة والسلام- :(إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار) – وفي الصحيح – (أفمن أجل نملة قرصتك – يقول الله – سبحانه وتعالى – لسليمان – قتلت أمة كانت تسبح الله) فنهى عن قتل النمل ، وبوب على ذلك الأئمة ، فأي دين أرحم من هذا الدين الذي ينهى أتباعه عن قتل النمل ، وقتل الدواب ، والأمر بالرحمة إليها ، وإطلاق صغارها ، وشكر من سقى من كان على ظمأ منها ، لا شك إنه دين يستحق التأمل والتدبر لكل ذي عقل ، والحمد لله الذي جعلنا وإياكم من أتباعه ، نعم .