(ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل) ، ولأجل ذلك رغب رسول الله ﷺ في ترك هذا قبل أن يقع ، حديث أبي أمامة – رضي الله عنه – : (أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَببيتٍ في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا، وَببيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ) فهذا الحديث ترغيب لكل مسلم ليلجم نفسه عن المراء رغبة في هذا الأجر ، ولو كان محق انظر كيف ولو كان محقًا ، فهذه العبارة معشر الإخوة والأبناء اجعلوا تحتها خطوط ، ومنها أخذ مالك – رضي الله عنه – وأحمد – رضي الله عنه – وغيرهم من أئمة الهدى من التابعين ومن بعدهم ، أخذوا مقالتهم الشهيرة التي ذُكرت عن مالك هنا – كتاب فضل علم السلف على علم الخلف – وعطف عليها المصنف – ابن رجب – أحمد ولم يحكي لفظه فيها ، ذلكم قولهم : ” بين السنة ولا تخاصم عليها ” فأنت إذا قلت للناس : قال رسول الله ﷺ ، واعترض معترض ، ودخلت معه في لجج ، ضيعت الغاية المقصودة والفائدة المنشودة وهي : إيصال السنة إلى الناس ، تضيع في خضم الجدال ، أما إذا جادل المجادل وأنت تقول : قال رسول الله ﷺ وتسكت ، تقول هذا قول النبي ﷺ ولا تزيد عليه ، فبالله عليكم كيف وقعه في قلوب العامة ، أنا أسألكم كيف وقعه ؟ ، وقعه عظيم ، إذ أنت تقول له هذا قول رسول الله ﷺ ، وهو يأبى إلا أن يقول ويقول محاولاً رده ، أو تحريفه ، فيقع كلامك في قلوب الناس موقعًا ، ويستسفهون المعارض لك ، ويستذلونه ، ويستحقرونه ، بخلاف مالو دخلت معه ضيعت السنة التي تريد إيصالها ، فتضيع في خضم الجدال ، فالنبي ﷺ قال : ” لمن ترك المراء وإن كان محقًا ” فالسلف – رحمهم الله – ما كانوا يخاصمون ، يبينون الأدلة الواردة في المسائل ولا يخاصمون فيها ، ويعيبون الخصومة فيها عيبًا شديدًا ، وذمًا شديدًا ، يذمونها ذمًا شديدًا ، ولهذا كان كلامهم في العلم قليل ونفعه كثير ، ومن بعدهم كلامهم كثير ونفعه قليل ، ولكن العلماء من هذا الجدل استثنوا نوعًا واحدًا منه وهو : ما كان المراد فيه الذب عن الدين ، وإظهار الحق ، وقد جاءت فيه الأدلة أيضًا في كتاب الله – تبارك وتعالى – ، قال – جل وعلا – : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية ، فأباح الجدال لاظهار الحق وتبيينه للخلق ، فإذا كان المقصد من هذا الجدل هذه الغاية الشرعية فلا بأس ، وهؤلاء الذين ذكر عنهم هذه الآثار قد أُثر عنهم الجدل من هذا النوع ، مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والنخعي وغيرهم أُثر عنهم جدال شرعي صحيح من هذا النوع ، فمالك جادل بالحسنى ذلكم الرجل الذي قال له : ” الرحمن على العرش استوى ” كيف استوى ؟ ، فجاءت عبارته المختصرة التي أصبحت محفوظة لكل أحد كالوحي ، لم ؟ ، لأنها مأخوذة من مشكاة الوحي ، قال : ” الإستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلا مبتدعًا ” ثم أمر به فأخرج من مسجد النبي ﷺ كان مالك مالك إمام ما يجرؤ أحد في زمنه بعدما تفرد بالإمامة في المدينة على أن يخالفه ، فأخرج من مسجد النبي ﷺ ، فجادله بلطف ، وبعلم ، وبقصد ، ما شقق الكلام ولا تجاوز فيه .