ومجوع الأدلّة الشّرعيّة والوقائع القدريّة يدلّ أنّ شرك المُتأخّرين أعظم من شرك الأوّلين من اثني عشر وجهًا :
- فالوجه الأول : أن الأوّلين يشركون في الرّخاء ، ويخلصون في الشّدّة ،وأما المتّأخرون فيشركون في الرّخاء والشّدة .
ذكر هذا الوجه المصنف في القواعد الأربع ، وفي كشف الشُّبهات أيضًا ، وذكره بعده جماعة ؛ منهم : سليمان بن عبدالله ، وعبدالرّحمن بن حسن ، وعبدالله أبا بطين ، وسليمان بن سحمان – رحمهم الله – .
- والوجه الثاني : أنّ الأوّلين كانوا يدعون مع الله خَلقًا مُقرّبين من الأنبياء والملائكة والاولياء ، أو يدعون أشجارًا وأحجارًا ليست عاصية ، وهؤلاء المتأخّرون يدعون مع الله الفسّاق والفجّار ، ذكر هذا الوجه المصنّف في كشف الشّبهات ، وعصريّه محمّد بن إسماعيل الصّنعانيّ في تطهير الاعتقاد ، ومنشأ دعوتهم أولئك الفسّاق مع مشاهدتهم فجورهم وفسقهم : أنّهم كانوا يخافون شرّهم وضُرّهم ؛فيتوجّهون إليهم بما يتوجّهون من أعمالهم .
- والوجه الثالث أنّ الأوّلين يعتقدون أنّ ما هم عليه مخالف دعوة الأنبياء والرسل ؛فإنّهم قالوا :(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) فلا يجتمع عندهم دين الأنبياء والمرسلين ودينهم الّذي هم عليه ،أما المتأخّرون : فإنّهم يدّعون أنّ فعلهم موافق دعوة الأنبياء والمرسلين ، ذكر معنى هذا الوجه عبداللّطيف بن عبدالرّحمن في ردّه على داود بن جرجيس .
- الوجه الرّابع : أنّ المشركين الأوّلين كانوا لا يشركون بالله في شيء من الملك والتّصرّف الكُلّيّ العام ؛ بل كانوا يقولون في تلبيتهم :(لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريكًا تملكه وما ملك) ؛ فهم يرون أنّ التّصرّف الكلّيّ هو لله – سبحانه وتعالى – وحده ، أمّا المتأخّرون : فقد جعلوا لمن يُعظّمونه مِلكًا وتصرّفًا في الكون ، وقصدوهم على أنّ لهم تدبيرًا في العالم ؛ وهذا شرك لم تعرفه الجاهليّة الأولى ، ذكر معنى هذا الوجه عبدالله بن فيصل بن سعود – رحمه الله – .
واعتبِر هذا فيما ينقلونه عن بعض ما يُعتقد في معظّم مصر أنّه لا تدخل نملة واحدة مصر حتّى يأذن لها ، فكيف ببقيّة المخلوقات ؟! ، وهذا التّصرّف والملك الكلّيّ لم يكن عليه أهل الجاهلية الأولى .
- والوجه الخامس : أنّ كثيرًا من المتأخّرين قصدوا معبوداتهم من دون الله على جهة الاستقلال ، وأمّا الأوّلون : فقصدوا معبوداتهم لتُقرّبهم إلى الله ؛ فهي عندهم شفعاء ووسائط .
- والوجه السّادس : أنّ عامّة شرك الأوّلين في الألوهيّة ، وهو في غيرها قليل ، أمّا المتأخّرون : فشركهم كثير في الألوهيّة ، والرّبوبيّة ، والأسماء والصّفات ، فأنت تجد من المتأخّرين من أنشد فقال لمعظّمه :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهّار
هذا يخاطب به مخلوقًا من المخلوقين !
- والوجه السابع : أنّ المتأخّرين يزعمون أنّ قصد الصّالحين ودعاءهم والتّوجّه إليهم من حقّهم ، وأنّ تركه جفاء لهم وإزراء بهم ، ولم يكن الأوّلون يذكرون هذا .
- والوجه الثّامن : أنّ المشركين الأوّلين كانوا مقرّين بشركهم ، كما تقدّم في تلبيتهم ويقولون : (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا) ، وأما المتأخّرون : فإنّهم لا يقرّون بشركهم ، ويسمّون رغبتهم إلى معظّميهم :(محبّة) ؛ فيزعمون أنّهم يحبون الأولياء ، وهم يدعونهم ويقصدونهم ويتوجّهون إليهم .
- والوجه التّاسع : أنّ المشركين الأوّلين كانوا يرجون آلهتهم في قضاء حوائج الدّنيا ؛ كردّ غائب ، وشفاء مريض ، ولا يجعلونهم عُدّة ليوم الدّين ؛ لإنكارهم البعث ، أو اعتقادهم أنّ لهم مقامًا ينالون به ما يريدون ، أمّا المتأخّرون : فإنّهم يريدون من مُعظّميهم قضاء حوائج الدنيا والآخرة ، ذكر معنى هذا الوجه حمد بن ناصر بن معمّر – رحمه الله – .
- والوجه العاشر : أنّ المشركين الأوّلين : كانوا يعظّمون الله ويعظّمون شعائره ، بخلاف المتاخّرين ؛ فلا يعظّمون الله ، ولا يعظّمون شعائره ، فكان الأوّلون يعظّمون اليمين بالله ، ويعيذون من عاذ ببيت الله ، ويعتقدون أنّ البيت الحرام أعظم من بيوت أصنامهم ، امّا المتأخّرون فإنّهم بضدّ هذا : يُقسم أحدهم بالله كاذبًا ولا يُقدم على الإقسام بمعظّمه ، ولا يعيذون من عاذ بالله وببيته ويعيذون من عاذ بمعظّميهم ، ويعتقدون أنّ العكوف عند القبور والمشاهد أعظم من الاعتكاف في المساجد ، وأكثرهم يرى أنّ الاستغاثة بمعظّمه أنجع وأسرع جوابصا من الاستغاثة بالله – سبحانه وتعالى – ، ولذلك من غرائب الحكايات الّتي تبيّن مثل هذا : ما حكاه لي أحدهم أنّه رأى عجوزين تمشيان بين يديه ، تقدمان إلى حافلة ليركبا ، فتعلّقت إحداهما بمقبض درجه لأجل الصّعود ثمّ اعتمدت عليه وقالت : (يا عليّ) فعابت عليها الأخرى وقالت لها : (اتركي عليًا للشّدّات) يعني اتركي عليًا للأمور العظيمة ، فهذا أمر هيّن وعليّ يُطلب للأمور العظيمة ! ، ولذلك لا يعرف قبح هذا وفشوّه في النّاس إلا من خالط بلادًا فيها مثل هؤلاء المشركين – نسال الله سبحانه وتعالى أن يطهّر بلاد المسلمين من الشّرك وأهله – .
- والوجه الحادي عشر : أنّ المشركين الأوّلين لم يكونوا يطلبون من آلهتهم كلّ ما يطلب من الرّحمن ؛ فلهم مطالب لا يطلبونها إلّا من الله ، أمّا المشركون المتأخّرون : فعكسوا الامر ؛ فلهم مطالب لا يطلبونها من الله ويطلبونها من معظّميهم ، ذكره ابن تيميّة الحفيد .
- والوجه الثّاني عشر : أنّ المتأخّرين من المشركين فيهم من يزعم أن الله – سبحانه وتعالى – يتجلّى في صور من المخلوقات فيرون في أحد من معظّميهم صورة الله – تعالى الله عمّا يقولون – كما قال أحد مقدّميهم :
الرّبّ عبد والعبد ربّ ياليت شعري من المكلّف
تعالى الله – سبحانه وتعالى – عن هذه المقالات الرّديئة ، ولم يكن أحد من المشركين الأوّلين يعتقد أنّ الله يتجلّى في صورة غيره من المخلوقات ، ذكر هذا الوجه ابن تيميّة الحفيد – رحمه الله – .
فهذه الوجوه الاثنا عشر تبيّن شدّة شرك المتأخّرين ، وغلظه ، وقبحه ، وشُؤم أثره على النّاس ، وأنّ ما فاتهم من سعة الدّنيا وأمنها وحسن حالهم هو بفشوّ الشّرك في بلاد المسلمين .
- مقتطف من شرح القواعد الأربع .