الدرس الأول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
إخواني: لقد نزل بنا هذا الضيف الكريم، والزائر الشريف العظيم، الذي نوه الله – سبحانه وتعالى – به في كتابه، واهتم به رسول الله ﷺ غاية الاهتمام، وحثَّ على القيام بحقوقه أمّته وأصحابه – رضي الله عنهم جميعاً – اقرأ المزيد
هذا الشهر العظيم هو الضيف الذي نزل بنا (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) هذا الشهر العظيم فرض الله – سبحانه وتعالى – صيامه، وسنَّ رسول الله ﷺ قيامه، وقد جاء ذلك في سنته موضّحًا غاية التوضيح، وبيّن – عليه الصلاة والسلام – العلّة التي من أجلها لم يستمر في قيامه، حيث قام في أوله ثم توقف خشية أن يُفرض على هذه الأمّة، فلا تستطيع القيام بذلك، وقد كان – عليه الصلاة والسلام – يبشّر أصحابه به ويهنئهم به، وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي ﷺ في التبشير بشهر رمضان، وكلها لا تخلو من مقال، وأكثرها الـمقال فيه شديد، والضعف فيه قوي، وأمثلها حديثان: حديث أبي هريرة – رضي الله تبارك وتعالى عنه – الذي قال فيه: لَمّا حَضَرَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فرض اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السماء، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ هي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ) هذا هو حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وهو الـمخرج عند الإمام النسائي، والإمام أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه – رحم الله الجميع -، وقد أُعلّ بالانقطاع بين أبي هريرة والراوي عنه وهو أبو قلابة الجرمي – رحمه الله تعالى -، ومن أهل العلم من يحسنه كما هو عند الجورقاني أو الجوزقاني في الأباطيل والـمناكير والصحاح والـمشاهير، ومنهم من صححه لشواهده كما ذهب إلى ذلك الشيخ ناصر – رحمه الله – ناصر الدين الألباني – رحمه الله – في صحيح الترغيب والترهيب، وهذا الحديث الذي ذكرنا هو أمثل ما في الباب، ويشهد له مثله حديث أنس – رضي الله تبارك وتعالى عنه – وهو قريب منه في اللفظ، وضعفه يسير، قريب منه في اللفظ وضعفه يسير ولذلك قال الشيخ رحمه الله الشيخ الألباني عن حديث أبي هريرة: “إنه صحيح لغيره لشواهد”، وعلى كل حال هذا الحديث حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وحديث أنس – رضي الله تبارك وتعالى عنه – يعدّان أصلاً في التهنئة بقدوم شهر رمضان، وأنها لا بأس بها، وإنما أردنا هذا الكلام تقدِمةً لـما سياتي من كلام على فضل هذا الشهر، أردنا هذا الكلام لبيان أنّ قول من قال إنه لم يثبت في التهنئة شيء عن رسول الله ﷺ، بل قال بعضهم: “إنّ الأحاديث الواردة في هذا كلها باطلة”، هذا الكلام فيه نظر، وعند النظر والتحقيق لا يثبت هذا الكلام، وبإذن الله – تبارك وتعالى – هذا الخبر: خبر حديث أبي هريرة – رضي الله تبارك وتعالى عنه – ومثله حديث أنس – رضي الله تبارك وتعالى عنه – كلاهما يثبت بهما هذا الأمر، ألا وهو التهنئة بالشهر عند قدومه، فحديث أنس – رضي الله عنه – الذي قلنا لكم إنه مثل حديث أبي هريرة أو قريب منه في اللفظ، لفظه قال: دخل رمضان، فقال رسول الله ﷺ : (إنّ هذا الشهر قد حضركم) هو مثل الأول، ثم قال: (وفيه ليلة خير من الف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم)، والشاهد فيه: أنّ النبي ﷺ كما قال أنس قال لأصحابه حين دخل رمضان، منوهاً بهذا الشهر وفضله، ومبشرًا لهم به، وحينئذٍ فالتهنئة والبشارة للمسلمين أو بين الـمسلمين بعضهم لبعض لا بأس بها، لـما جاء في هذين الحديثين، وهما أَمثل ما ورد في الباب، وكيف لا يُهنَّأ برمضان وهو موسم الخيرات، وشهر الطاعات، فيه يتنافس الـمتنافسون، وفيه يتسابق الـمتسابقون، وقد يسّر الله – سبحانه وتعالى – فيه على عباده الـمؤمنين الطالبين للخير والساعين إليه، يسّر لهم الأسباب، وأزال عنهم العوائق التي تمنعهم من التسابق إلى الخيرات والـمسارعة في الطاعات، والازدياد منها، فهذا فضل من الله – تبارك وتعالى – (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) يونس، وإذا كان الأمر كذلك فلا يُنكر على من هنّأ أخاه بشهر رمضان، وقال له مهنّئاً: الشهر عليك مبارك، أو شهر مبارك، أو مبارك عليكم الشهر، فهذه ألفاظ رسول الله ﷺ، ولكن الذي يُنكره أهل العلم إنكاراً بالغاً أن يقول بعضنا لبعض: (كل عام وأنتم بخير)، فهذا لم يرد في السنّة وليس هو بوارد عن أحد من سلف الأمة، وإنما يُكتفى بأن يقال: بارك الله لنا ولكم في الشهر، أو الشهر مبارك، أو جعل الله الشهر علينا وعليكم مباركاً وهكذا، فمثل هذا هو الذي جاءت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ، وقد ورد في هذا الباب نحو من عشرة أحاديث اخترت لكم أَمثلها وأحسنها وأخفها ضعفًا، والـمراد بالضعف هنا: الضعف القابل للانجبار الذي يكون حسناً – إن شاء الله – إذا ورد معه الشاهد وضم إليه، فهذان الحديثان أمثل ما ورد في هذا، وعليه فالذي يُنكر على الـمسلمين التهنئة فيما بينهم بقدوم شهر رمضان أو التبشير به هذا الذي يقال إنّ في كلامك نظر، نعم، وهذا الشهر كما جاء في حديث أبي هريرة: (تفتح فيه أبواب السماء)، والرواية الأخرى: (أبواب الجنّة)، وأصل حديث أبي هريرة في الصحيحين متفق عليه: (إِذا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَت أَبْوَابُ النَّارِ، وصُفِّدتِ الشياطِينُ)، فأصله في الصحيحين، ولكن بالبشارة بلفظ: (أتاكم رمضان شهر مبارك) هذا موجود عند النسائي في سننه، والإمام أحمد، وابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه، وعلى كل حال فالتبشير برمضان والتهنئة بقدومه فيما بيننا على نحو ما ذكرنا لا بأس به، وقوله – عليه الصلاة والسلام -: (شهر مبارك) نعم هو شهر مبارك، لـما فيه من كثرة الخيرات وأنواع الطاعات، ففيه قراءة القرآن، وفيه الصلاة صلاة القيام، وفيه الذكر والدعاء، وفيه الصدقة وغير ذلك من أنواع الطاعات التي يتسابق إليها أهل الإسلام في شهر رمضان بما لم يكن منهم في غيره، أهل الإسلام أهل خير، والخير في أمة محمد ﷺ، لكن إذا جاء رمضان رأيت منهم النشاط، النشاط في الصلاة، والـمحافظة عليها، رأيت فيهم النشاط والـمسارعة إلى قيام الليل صلاة التراويح والتهجد، إذا جاء رمضان رأيت فيهم البذل والإحسان والـمسابقة إلى تفطير الصائمين وإطعام الجائعين، وتفقد الـمساكين، فهذا يزيدون فيه في رمضان نشاطاً ويظهر ذلك جليّاً للناس، يرونه بعضهم من بعض رؤيا العيان، فقوله – عليه الصلاة والسلام -: (فتحت أبواب السماء) يعني الجنّة، وما تفتيح أبواب الجنّة معاشر الأحبة إلا لكثرة أعمال البر في رمضان، فباب الصيام باب عظيم، يفتح لك أبواباً عديدة من الطاعات، فالصيام وحده له باب خاص في الجنّة، أو يُدخل منه إلى الجنّة اسمه باب الريان لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أُغلق ذلك الباب، وفيه أيضاً من هذه الخيرات ما يجعلها سبباً لدخول العبد الجنان، وفيه تغليق أبواب النار، وإغلاق أبواب النار بعكس أبواب الجنّة وذلك لقلّة أسباب دخولها، قلّة دواعي دخولها أو انعدامها في هذا الشهر، يقل ما كان من الـمعاصي في غير رمضان، يقلّ في رمضان أو يكاد ينعدم، وذلك لأنّ الصيام يقضي أو يُضعف الشهوة، فتجد الـمسلم حينئذ منجذباً إلى الطاعة بعيداً عن الـمعصية ضعيفاً عنها، فلا يوجد في نفسه داع لها، لأنّه يحرص على صيامه ويحرص على صونه مما يُفسده، لأنّ الصوم جُنَّة، والجنّة هي الترس الذي يُتقى به ضرب الـمقاتل لك، فهكذا الصيام يُتّقى به النار فهو جِنَّة بيننا وبين النار، فيحرص الـمسلم على ألا يخرّق هذه الجِنَّة، فلهذا كانت دواعي الشر في رمضان في نفوس الناس قليلة جدًا، فلأجل هذا فتحت أبواب الجنان لكثرة أسباب دخولها، وغلقت أبواب النار رحمة من ربنا بنا لقلّة أسباب دخولها أو لانعدام، وهكذا أعاننا الله – جل وعلا – فيه على أنفسنا بتصفيد مردة الشياطين، ومردة الشياطين هم عتاتهم أو رؤوسهم الذين يكيدون الناس فلا يخلصون منهم في رمضان إلى ما كانوا يخلصوا منه إليه منهم في غيره فتضعف حينئذ وساوس إبليس، وتضعف دواعي الشر في نفوس الناس وذلك بحبس عدوهم عنهم، فهذه نعمة من الله – تبارك وتعالى – معاشر الأحبة، أن يسّر لنا أسباب الخير وأغلق عنا أبواب الشر ثم حبس عنّا الدعاة إلى الشر، فتح لنا أبواب الخير، ويسّر أسبابه وأغلق عنا أبواب الشر، وحبس دعاته فهذه أربعة أسباب كلها معينه على الطاعة والـمسابقة إليها في هذا الشهر، نسأل الله – جل وعلا – أن يجعلنا وإياكم من الـمسارعين إلى الطاعات، والـمتسابقين في فعل الخيرات، والـمنجمعين عن الـمعاصي والشهوات إنّه ولي ذلك والقادر عليه، وفيه ليلة خير من ألف شهر هي ليلة القدر يا معاشر الأحبة، هذه الليلة في هذا الشهر العظيم كما نوه الله – سبحانه وتعالى – بذكرها حينما ذكر نزول القرآن، فقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) يعني القرآن، (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)) الدخان، هذه الليلة الـمباركة الـمبهمة هنا جاءت مفسرة في سورة كاملة وهي سورة القدر، قال الله – جل وعلا – بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)) تفخيمًا لشأنها، وتعظيمًا لـمنزلتها، وبياناً لرفعة مكانتها عند الله – تبارك وتعالى -، ثم قال مبينًا من ذلك: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)) ألف شهر ليس فيها ليلة القدر فهذه الليلة قيامها والعبادة فيها خير من القيام والعبادة في 1000 شهر التي تعدل 83 سنة 83 سنة قيام هذه الليلة يفضل قيام 83 سنة، فانظر إلى هذا الفضل العظيم يا عبدالله، وما ذلك إلا من رحمة الله بنا، فلما كانت هذه الأمّة أمّة النبي محمد ﷺ، أقلّ الأمم أعمارًا أعطاها الله من الأعمال القليلة ما يعادل الأعمار الطويلة، أعطاها الله من الأعمال في الأوقات القليلة ما يعادل العمل بل يفضله في الأوقات والأعمال الطويلة، فهذه نعمة من الله، فالله – سبحانه وتعالى – إذا جاء في جانب النقص فإنّه يعوّض عباده الـمؤمنين في الجانب الآخر أو في جوانب أخرى، فمما عوضنا الله به يا معاشر الأحبة عن طول الأعمار فضل الأعمال في مثل هذه الأوقات، فهذه الليلة قيامها أفضل من قيام كم؟، 83 سنة، فانظر إلى نفسك كم رمضان تعيش؟، وعد كم ليلة قدر تُدرك فتقوم، فالـموفق من وفقه الله للقيام في هذه الليلة، والـمحروم فعلاً من حُرم قيام هذه الليلة، كما قال النبي ﷺ : (ومن حرمها فهو المحروم) يعني المحروم حقاً من الأجر والثواب العظيم، فنسأل الله – سبحانه وتعالى – يا إخوتي بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم جميعًا من المسابقين إلى الطاعات والمسارعين إلى الخيرات، والمنجمعين والمنكفين عن المعاصي والسيئات، كما نسأله – سبحانه وتعالى – باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سأل به أعطى نسأله سبحانه أن يبلغنا كماله كما بلغنا هلاله، نسأله سبحانه كما بلغنا هلاله أن يبلغنا كماله، وأن يعيننا وإياكم فيه على الصيام والقيام، وأن يوفقنا وإياكم فيه لاغتنام الساعات، وأن يجعلنا وإياكم فيه من المقبولين، وأن يرحم والدينا ووالديكم، ومن لم يعد عليهم هذا الشهر إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وصلى الله وسلم على بقية الأنبياء أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالـمين.
الدرس الثاني : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله صل الله عليه وعل آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: اقرأ المزيد
فهذا هو اللقاء الثاني – معاشر الإخوة الكرام – في هذا الشهر الـمبارك، في هذا العام ؛ عام خمسة وأربعين وأربع مئة وألف من هجرة الـمصطفى ﷺ، وكنا قد تكلمنا بالأمس حول موضوع التهنئة بدخول رمضان، والكلام الوارد في ذلك، وذكرنا الأصل في هذا؛ وهما حديثان جاءا: الأوَّل عن أبي هريرة، والثاني: حديث أنس ، وقلنا: إنَّهما أمثل ما في الباب، وتكلمنا على درجتها بكلام يسير، والحاصل أنَّهما إن جُمعا إلى بعضهما فلا ينزل الحديث عن الحسن إن شاء الله، وذكرنا أن العلامة الألباني، قد صححه لغيره بمجموع شواهده في «الترغيب»، وعلى كل حال: تقدم ما تقدم، والوقت ضاق علينا، وكنت أنا قد حدَّدت للقاء اليومي خمسًا وعشرين دقيقة، فرأيت أن الخمسة الباقية لا تكفي، فانتهينا، فالسبب في ذلك أيضًا قصر الوقت بعد القعود هنا على الذاهب الذي يريد الذهاب إلى مسجد النبي ﷺ ، فيحتاج إلى وقت مع الزحام، والكراء للسيارات، ونحوها، فهذا الوقت يمديه، يمديه فيه إن شاء الله تعالى، فهذه الكلمات الباقيات نتمُّها هذه الليلة، ألا وهي الكلام على أنَّ أكثر أهل العلم على جواز التهنئة بدخول شهر رمضان، أكثر أهل العلم على جواز ذلك من السَّلف والخلف، وذكرنا بالأمس كلام الحافظ ابن رجب أن حديث أبي هريرة -رضي الله تبارك وتعالى عنه – أصل في تهنئة النَّاس بقدوم شهر رمضان الـمبارك، وممن يرون جواز التهنئة بالـمواسم العظيمة وبكلِّ ما فيه قربة وطاعة وخير: الإمام ابن القيِّم -رحمه الله تعالى – في «زاد الـمعاد» عند كلامه على توبة كعب بن مالك -رضي الله تبارك وتعالى- عنه، ومن أشهر العلماء الـمتأخرين في زماننا هذا أو الـمعاصرين: شيخ مشايخنا في هذه الأعصار الـمتأخرة، شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى-، حيث سُئل عن ذلك؛ عن حكم التهنئة بدخول شهر رمضان، فأجاب بما نصه وهو موجود في الشبكة صوتي ومفرَّغ، تقرأ وتسمع ، أجاب بقوله – رحمه الله -: (شهر رمضان شهر مبارك، يفرح به الـمسلمون، وكان النبي ﷺ وأصحابه يفرحون به، وكان النبي ﷺ يُبشِّر به أصحابه، فإذا فرح الـمسلمون واستبشروا بذلك وهنَّأ بعضهم بعضًا؛ فلا حرج في ذلك) ثم قال: (كما فعله السَّلف الصَّالح؛ لأنَّه شهر عظيم ومبارك، يُفرحُ به لـِما فيه من تكفير السيِّئات، وحطِّ الخطايا، والـمسابقة إلى الخيرات في أعمال الصالحات)، وله إجابة أخرى مثلها أخصر منها، فنحن سقنا هذه، واكتفينا بها؛ لأنها أكثر توضيحًا، وهكذا سُئل الشَّيخ العلَّامة الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين – رحمه الله تعالى- عن هذه الـمسألة فأجاب بقوله: (ورد عن السَّلف أنَّهم كانوا يُهنِّئون بعضهم بعضًا في دخول رمضان، ولا حرج في هذا)، ثمَّ زادنا -رحمه الله وغفر له- ماذا نقول، فقال: (فيقول مثلاً: يعني الـمُهنِّئ لأخيه الـمسلم: (شهر مبارك، أو بارك الله لك في شهرك، أو ما أشبه ذلك، وهو يردُّ عليه) يعنى الطرف الثاني الذي هنَّئ قال: (وهو يرد عليه على الـمُهنِّئ بمثل ما هنَّأه به، فيقول مثلاً: ولك بمثل هذا، أو يقول مثلاً: وهو مبارك عليك، أو ما يحصل به تطييب الخاطر) للذي هنَّأك تُطيِّب خاطره، فتجيبه، فتردَّ عليه بمثل ما قال، أو بأيِّ عبارة أخرى يحصل بها تطييب الخاطر، وبمثل هذا أيضًا أجاب العلَّامة الألباني – رحمه الله تعالى -، وهو موجود صوتي ومفرَّغ على الشبكة لـمن أراده، سألته سائلة عن ذلك؟، فأجابها بقريب من قول الشيخ ابن عثيمين، وقال: (أنا ما أعرف شيء ورد عن السَّلف) يعني في العبارات (ولكن يهنِّئه بما يحصل به، ولكن لا يقول: كل عام وأنت بخير)، وقال: (إنَّ هذه عادة الكفار)، وهكذا مثله قال من قبل العلَّامة الحافظ الأعجوبة الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي صاحب “الأضواء”، وقد تكلم عن هذه الـمسألة، وذكر نحوًا مما ذكره الشيخ ناصر الدين الألباني، رحمهم الله جميعًا، وقال: (لا بأس بالتهنِّئة بما يحصل به الدلالة على ذلك)، وهكذا بقيَّة الـمشايخ في قطرنا كلهم على هذا فيما أعلم، إنما أذكر عمن أعلم، ومن هؤلاء ممن لم نذكره أيضًا: الشَّيخ صالح الفوزان -حفظه الله وختم لنا وإياكم جميعًا وله بخير-، فهؤلاء جميعًا هم العلماء الأعلام، وفقهاء الإسلام في هذا العصر، وكلُّهم يسندون فعلهم، أو قولهم، أو فتاواهم، يسندونها إلى فعل السَّلف الصَّالح، وإيَّاك أن تعمل عملاً، أو تقول قولاً ليس لك به سلف، فكلُّ خير في اتباع من سلف، وكلُّ شر في ابتداع من خلف، فهذا الذي أحببت أن أضيفه في هذه اللحظات، وننتقل بعد ذلك إلى درسنا في هذه الليلة؛ ألا وهو ما يتعلق بفضائل شهر رمضان الـمعظَّم، هذا الشهر العظيم الذي خصَّ الله – سبحانه وتعالى – أيامه ولياليه بوظائف، وخصَّه بأنواع من الأجور، وقد كتبه – سبحانه وتعالى – على جميع الأمم من قبلنا – أعني الصوم -، فمن فضائل شهر رمضان: أنَّ الله – تبارك وتعالى – قد جعله أحد دعائم هذا الدين، فهو الركن الرابع من أركان الإسلام التي بُني عليها، فهي الأعمدة التي يقوم عليها الدِّين، هذه الخمسة الأعمدة، كما جاء ذلك في الأحاديث، ومنها حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما -: أن النبي ﷺ قال: (بني الإسلام على خمس) وعدَّ منها: (صيام شهر رمضان، وحج البيت)، وهو حديث متَّفق عليه، فهذا دليل على عظم مكانة ومنزلته وفضله عند الله – تبارك وتعالى -؛ حيث عدَّه رُكنًا من أركان الإسلام، فهو ليس كأيِّ عبادة أخرى، ومن فضائل هذا الشهر الَّتي يستحق أن نفرح به بسبب وجودها فيه: إنزال الله – جل وعلا – للقرآن فيه، فقد اختصَّه الله – سبحانه وتعالى – من بين سائر الشهور بذلك، ونوَّه به في كتابه ، فقال سبحانه: « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) [البقرة]، فاختصَّ الله – سبحانه وتعالى – هذا الشهر الـمعظَّم بإنزال كتابه الكريم عل نبيِّه – عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام – فيه، وهذا دليل على شرف هذا الزمان وعلى فضله، وسيأتي معنا في أيِّ وقت منه من هذا الشهر كان إنزال القرآن، ومن فضائله أيضًا: أنَّ الله اختصَّه بكون ليلة القدر فيه، كما قال في القرآن: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)) [الدخان]، وهذه الليلة الـمباركة هي ليلة القدر التي جاء فيها سورة كاملة في القرآن، وهي قوله – جل وعز-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يعني القرآن (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)، لا كما قال بعض الجهلة يعني نزول الله – جل وعلا – ، هذا جهل عظيم، فالـمراد: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) هو الـمراد بقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)) [الدخان]، فالليلة الـمباركة هي هذه الليلة؛ ليلة القدر التي قال الله فيها: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))، فاختصَّ الله – سبحانه وتعالى – هذا الشهر الـمعظَّم في هذه الليلة الكريمة الـمباركة الـمعظَّمة التي هي خير من ألف شهر، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر، وكما قلنا بالأمس: إنَّك لو قسمتها تطلع لك كم؟، ثلاث وثمانين سنة، وعليها كسر ثلاثة أشهر، أو نحو ذلك، فالشاهد: هذه الليلة الـمباركة هي الَّتي فيها نزول القرآن هي في هذا الشهر العظيم، فإذا كان العمل في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر ليست فيه ليلة القدر، وهذه الليلة هي في رمضان، أليس حريَّاً بالـمسلم أن يفرح بهذا الشهر لاحتوائه على هذه الليلة ضمن لياليه؟!، بلى والله، إنَّه لجدير بالـمسلم أن يفرح غاية الفرح بدخول هذا الشهر، لو لم تكن فيه إلا هذه الليلة، فكيف وفيه من الفضائل ما هو أكثر وأكثر، ومن هذه الفضائل أيضًا – فضائل هذا الشهر الَّتي يستحق أن يفرح به أهل الإسلام لعموم قوله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) [يونس]، فهذا من فضل الله، فالعبد يفرح بفضل الله – سبحانه وتعالى -، ويفرح برحمة الله – سبحانه وتعالى -، وقد جاءت رحماته وفضله متتابعة، ومتظافرة، ومتوالية، ومتكاثرة في هذا الشهر العظيم على عباده الـمؤمنين، فحريٌّ بنا أن نفرح به – فمن ذلك: أنَّ هذا الشهر قد جعل الله – سبحانه وتعالى – صيامه سببًا لغفران الذنوب، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة الـمتفق عليه أن النبيَّ ﷺ قال: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)؛ إيمانًا: تصديقًا بما قاله الله وقاله رسوله ﷺ، واحتسابًا: للأجر عند الله -تبارك وتعالى -، مُخلصًا العمل لا رياء ولا سمعة فيه، مُخلصًا العمل لله لا رياء ولا سمعة، وإنَّما يريد ما عند الله – جل وعلا -، فإذًا: (من صام) هذا الشهر (إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)، ويؤيد ذلك أيضًا يضاف إليه أيضًا: حديث أبي هريرة الآخر عند مسلم في “صحيحه” أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: (الصلوات الحمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فإذا حصل بعد رمضان منك – يا عبد الله- ما حصل من الهفوات والذنوب، وكلّنا ذلك الرجل، (كل بني آدم خطاء)، هذا نص كلام رسول الله ﷺ، كلُّ بني آدم خطاؤون يقعون في الخطأ، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، أخرجه أحمد في “مسنده” برقم (13049)، وابن ماجه في “سننه” برقم (4251)، والترمذي في “جامعه” برقم (2499)، وحسنه الألباني في “المشكاة” برقم (2341)، فإذا وقع كما وقع بعد رمضان؛ فإنَّه إذا جاء الرمضان الآخر وصمته على هذا النحو إيمانًا واحتسابًا؛ كفَّر ما بينه وبين سابقه من صغائر الذنوب، أليس هذا فضل؟، والله إنَّه لأعظم الفضل، سنة كاملة، وأنت يحصل منك ما يحصل من صغائر الذنوب، ومن الآثام، والـمعاصي، ثمَّ يمنُّ الله – سبحانه وتعالى – عليك أولاً: بأن متَّعك بالصَّحة والعافية حتَّى بلَّغك الشهر، ثانيًا: أن وفَّقك الله لصيامه على هذا الوجه الـمطلوب إيمانًا واحتسابًا، إيمانًا بالله، وتصديقًا بخبره وخبر رسوله ﷺ، واحتسابًا للأجر عند الله -تبارك وتعالى- لا عند أحد، لا تُرائي بذلك العمل أحدًا، إنَّما تبتغي الأجر والثواب من الله؛ فإنَّ الله يُثيبك بهذا الذي سمعنا، وهذا من أعظم الأجور التي يجنيها أهل الإيمان أهل الصيام إذا دخل عليهم رمضان وقاموا بحقه، ومن فضائله أيضًا: أنَّ الله جعل قيامه سببًا للمغفرة، قيام ليله سببًا للمغفرة، فقد جاء في حديث أبي هريرة السابق: (من صام رمضان)، ثم قال: (ومن قام رمضان إيماناً واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه)، وهذا القيام – قيام رمضان – يتساهل فيه كثير من الناس؛ يقومون في أوله ليالي، ثم يفترون، وربَّما قاموا نصفه، ثمَّ ضيعوا النصف الآخر والذي فيه العشر الأواخر، والتي هي أفضل ليالي السنة على الإطلاق، والتي فيها ليلة القدر، فيضيعونها، ويذهبون إلى الأسواق، وزد عل ذلك؛ الآن الـمقاهي التي فُتِنَ النَّاس بها، فلا تكاد ترى مقهى إلَّا وترى النَّاس فيه مثل الذباب على قطعة الحلوى من الكثرة، وهذه من البلوى لا من الحلوى، إنَّما هي بلوى، ذهاب الأوقات، وإزهاق الساعات، وتفويت الطاعات يعقبه النَّدامة والحسرات، ومن فضائله أيضًا: أنَّ الله يفتح فيه أبواب الجنَّة، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنَّة)، وفي رواية أخرى: (فلم يُغلق منها باب) وأبواب الجنَّة ثمانية، كما جاء ذلك في الأحاديث عن رسول الله ﷺ، وأبواب جهنَّم (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) [الحجر]، نعوذ بالله من ذلك، فهذا من فضائل هذا الشهر؛ أنَّ الله يفتح فيه أبواب الجنَّة؛ وذلك لِـما فيه من كثرة الخيرات، والأعمال الصالحات، وإذا كان باب الجنَّة قد فُتح، وباب النَّار قد أُغلق، والعدو -كما قلنا بالأمس- عدوك الـمترصد بك قد حُبس عنك وقُيِّد؛ فما بقي إلَّا أن تُشمِّر في الطاعة، وتُسابق، وتُسارع إليها، والسعيد من وفقه الله، والـمحروم من حرمه الله، نسأل الله العافية من الحرمان، ولنعلم: أنَّ من حُرِم الـمسارعة إلى الخيرات والـمسابقة في الطاعات في هذا الشهر؛ فهو الـمحروم حقيقة؛ لأنَّه إذا كان أبواب الخير قد فُتحت لك، وأبواب الشَّر والنَّار قد صدَّت عنك، وأغلقت، والعدو قد قُيِّد، ورُبط، عدوك الذي يطلبك بالشَّر ومع ذلك ما بقي لك سبب يُثبِّطك أو يُضعف عزيمتك، ولكن يبقى الاستعانة بالله – سبحانه وتعالى – على النَّفس، ومجاهدتها، فإنَّ مجاهدة النَّفس على هواها حتَّى يوردها الجنَّة مأواها؛ هذا هو العمل الرشيد، وغيره هو العمل السفيه، عياذًا بالله من ذلك، ومن فضائل هذا الشهر: أنَّ جهنَّم تُغلق فيها أبوابها عن عباد الله، وهذا خير من الله – تبارك وتعالى – وفضل -كما تقدم الكلام عليه-؛ إذ لم يبق أمامك إلا أبواب الخير مُشرَّعة مفتوحة، وما بقي منك إلَّا الـمسارعة أنت، ومن الفضائل ما جاء في هذا الكلام أيضًا: أنَّ الله يحبس عنَّا عدونا في شهر رمضان، وهم مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غير رمضان، وقد جاء في حديث أبي هريرة السابق، قال – عليه الصلاة والسلام-: (فتحت أبواب الجنَّة، فلم يغلق منها باب، وأغلقت أبواب النَّار، فلم يفتح منها باب) أخرجه ابن ماجه في “سننه” برقم (1642)، والترمذي في “جامعه” برقم (682)، وصححه الألباني في “المشكاة” برقم (1960)، في الرواية الأخرى: (وصفِّدت الشياطين) أخرجه مسلم في “صحيحه” برقم (1079)، وفي الرواية الثانية: (مردة الجن) أخرجه ابن ماجه في “سننه” برقم (1642)، والترمذي في “جامعه” برقم (682)، وصححه الألباني في “المشكاة” برقم (1960)، أو: (مردة الشياطين) أخرجه أحمد في “مسنده” برقم (7917)، والنسائي في “سننه” برقم (2106)، وصححه الألباني في “المشكاة” برقم (1962)، كل هذا وهذا ورد، فإذا كان عدوك محبوس – الذي هو أعظم أسباب هلاكك -، وطرق الهلاك مغلَّقة فلا تدخلها، وطرق الخير مفتوحة وتُدعى إلى دخولها؛ لم يبق إلا السير والـمسارعة، وما عدا ذلك فهو الكسل، نعوذ بالله من ذلك، والـمحروم من حُرم من طاعة الله – تبارك وتعالى- ، الـمحروم هو من حُرم من طاعة الله – تبارك وتعالى-، والـمحبوس من حُبس عن طاعة الله – تبارك وتعالى – يا معاشر الأحبَّة، الآن الصَّلاة أنت تمشي إليها، وربما أحيانًا تتكاسل، إذا نظرت وزرت أخًا لك مريضًا قد أُقعد، ما يتمنى من الدنيا شيء إلا خطوات إلى الـمسجد، يدخل هذا الـمسجد فيصلي مع الـمصلين كما أمر الله، قال – جل وعلا – : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)[البقرة]، فيتمنى فقط أن يذهب إلى الـمسجد؛ تعرف نعمة الله عليك، أنَّ الله متعك بحواسك وجوارحك، فالواجب عليك أن تستغلها في طاعة الله – تبارك وتعالى -، ومن فضائل هذا الشهر الَّتي يستحق أن نفرح بقدومه علينا: كثرة العتق من النَّار؛ فإنَّ الله يُكثر العتق فيه من النيران، كما جاء ذلك في حديث أبي أمامة – رضي الله عنه – عند الإمام أحمد: أن النبي ﷺ قال: (إن لله عند كل فطر عتقاء) لله عند كل فطر عتقاء في هذا الشهر، خرجه الإمام أحمد، وصححه الشيخ الألباني – رحمه الله – في “صحيح الترغيب”، وجاء أيضًا مثله في حديث أبي سعيد – رضي الله عنه -، وذكره الـمنذري أيضًا في “الترغيب والترهيب” قال: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة) يعني في رمضان، فما أكثر العتق من ربنا – تبارك وتعالى – لـمن استحق النَّار من عباده الـمؤمنين في هذا الشهر، يعتقهم الله – تبارك وتعالى -، شهر بهذه الصِّفة ألَّا يستحق أن يفرح به أهل الإسلام؟!، بلى والله، فإن الله قد اختصَّه بكثرة العتق من النَّار، ومن فضائله أيضًا: إجابة الدعاء، كما جاء في حديث أبي سعيد – رضي الله عنه – السابق، حديث أبي سعيد الذي تقدم في العتقاء جاء فيه أن النبي ﷺ قال: (وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)، (وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة) من أيام رمضان وليالي رمضان (دعوة مستجابه)، وإذا كان الأمر كذلك؛ فعلينا أن نجتهد في الدعاء، ونكثر من الدعاء بأن يُبلّغنا الله ما نحبُّ ونأمل، وأن يعيذنا وإياكم وسائر إخواننا الـمسلمين ويجيرنا مما نكره، فهذا من أعظم الفضائل التي جاءت في شهر رمضان، ومن فضائله أيضًا: أنَّ العمل القليل يعدل العمل الكثير، كما جاء ذلك في حديث أبي ذر – رضي الله عنه – الـمخرج في “سنن أبي داود” في قيام النبي ﷺ، وفيه قال – عليه الصلاة والسلام – : (وإنه من قام مع الإمام حتَّى ينصرف كتبت له قيام ليلة) أخرجه أبو داود في “سننه” برقم (1375)، وصححه الألباني في “الإرواء” (2/ 193) برقم (447)، هل يستطيع أحد منا الآن يقوم من بعد العشاء حتَّى يطلع الصبح؟، شاق، فيه مشقة، ولكن تُصلِّ مع الإمام في هذا الشهر ساعة أو نص نصف ساعة على حسب حال الـمصلين، خفَّة وطولاً في القراءة يُكتب لك به قيام ليلة، بشرط أنَّك ما تنصرف إلَّا بعد ما ينصرف الإمام: (إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة)، وإذا كان النَّاس على أكثر من إمام؛ كاثنين، أو ثلاثة، فلا ينصرف إلا بعد أن ينصرف آخر إمام، يعني تفرغ الصلاة، فهذا يحصل له الأجر، أمَّا من انصرف والإمام في محرابه يُصلِّ؛ لا يَحصل على هذا الأجر، ومن فضائله أيضًا: أنَّ العمرة فيه تعدل حجَّة، بل تعدل حجَّة مع النَّبيّ ﷺ ، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي ﷺ قال لامرأة من الأنصار بعدما رجع من حجَّته حجَّة الوداع، قال لها: (ما منعك أن نراك)، أو قال: (أن تكوني تحجِّي معنا)، قالت: يا رسول الله، إنه لم يكن لنا إلا ناضحان؛ أمَّا أحدهما فحجَّ عليه فلان -يعني أبو أولادها-، وأمَّا الآخر فإننا ننتضح -يعني نسقي عليه-، يأتون عليه بالـماء، فقال لها ﷺ: (فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة) متفق على صحته، وعند مسلم : (تعدل حجَّة معي) يقوله –عليه الصلاة والسلام-، فالعمرة في رمضان انظر إلى أجرها العظيم؛ كأنَّما حججت مع رسول الله ﷺ، ولذلك فلا يُستغرب أن يتكاثر وفود النَّاس على الكعبة الـمعظَّمة، وعلى مكَّة الـمكرَّمة في هذا الشهر العظيم لأجل الحصول على هذا الأجر، فنسأل الله – سبحانه وتعالى – ألَّا يحرمنا وإياكم من واسع فضله، ومن فضائله أيضًا: أنَّ صيامك في هذا الشهر مع عموم الصوم أيضًا – يشفع لك عند الله يوم القيامة، عموم الصوم وهذا الشهر في مقدمها يشفع لك عند الله يوم القيامة ويُشفَّع فيك، كما قال ذلك النبي ﷺ في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: (الصيام والقرآن يشفعان في العبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعنه طعامه وشهوته بالنَّهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب، منعنه منامه بالليل، فشفعني فيه، قال: فيشفعان) ، قال النبي ﷺ: (فيشفعان)، فَنِعم الشفيعان؛ القرآن وصيام شهر رمضان. نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعلنا وإياكم ممن يشفع فيهم القرآن، ويشفع فيهم شهر رمضان، هذه بعض الفضائل، ولا نريد أن نطيل، هناك فضائل أُخر لكن فيها في أحاديثها شيء من الضعف، وهذه كلها صحيحة انتخبتها على هذا النحو من كلام أهل العلم، ما جئت به من عندي، وإلَّا هي مبسوطة في كتابات علماء الإسلام، وموجودة فيها، وملخصها هو هذا، واخترت لكم أصحَّ ما فيها.
الدرس الثالث : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالـمين، والصَّلاة والسَّلام عل نبينا محمَّد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: اقرأ المزيد
فهذا هو الـمجلس الثالث في هذا الشهر الكريم – شهر رمضان -، عام خمسة وأربعين وأربع مئة وألف من هجرته ﷺ، وهو في الحقيقة استكمال لـِما سبق معنا بالأمس، فقد وقفت على بعض الأحاديث، وما أحببت أن أدعها في فضائل شهر رمضان خاصَّة، وفي الصِّيام عامة، ولكن قبل ذلك وقفت عل بعض الأحاديث أيضًا فيما يتعلق بكون شهر رمضان صومه عتق من النَّار، وكان قد تقدم معنا ذلك في لقائنا بالأمس في حديث أبي أمامة، وحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم جميعًا-، فأحببت أن أضيفها: فمن هذه الأحاديث التي جاءت في هذا الباب: أنَّ لله عتقاء في شهر رمضان في كلِّ ليلة، ولا يعلم عددهم إلا الله -تبارك وتعالى-، ما جاء من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عند الترمذي، وابن ماجه، عن النبي ﷺ أنَّه قال: (وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ) في رمضان، وصححه الشيخ ناصر – رحمه الله تعالى -، كما جاء أيضًا في حديث جابر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ: (إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ)[ أخرجه ابن ماجه في “سننه” برقم (1643)، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع الصغير” برقم (2170)]، وجاء أيضًا عنه – رضي الله عنه – أنَّ النبي ﷺ قال: (إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ)، (إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء العتقاء (دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ)، خرجه الإمام أحمد – رحمه الله تعالى-، وصححه الشيخ ناصر – رحمه الله – [خرجه أحمد في “مسنده” برقم (7450)، وصححه الألباني في “صحيح الجامع الصغير” برقم (2169)]، والحديث السابق مثل حديث أبي أمامة الذي تقدم معنا بالأمس تمامًا، وحديثنا هذا الثاني مثل حديث أبي أمامة، وحديث أبي سعيد، جمعهما جميعًا، فهذان الحديثان يضافان إلى ما تقدم، والفرح بهما أعظم وأعظم لـِما فيهما من عظيم الثواب، وكلَّما تكاثرت الأحاديث في الشيء ازداد قوة وثبوتًا، وازداد العبد به يقينًا وفرحًا، فإنَّ هذا مما يُفرح به، نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعلنا وإياكم ممن يفرح بذلك، وأمَّا ما يتعلق بالجديد في هذه الليلة في فضائل شهر رمضان فهو: أنَّ خُلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح الـمسك، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ أنَّه قال: (أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ من الأمم قَبْلَهمْا) ما أوَّل هذه الخصال؟، أوَّل هذه الخصال، قال: (خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) [أخرجه أحمد في “مسنده” برقم (7917)]، وهذا الحديث الذي ذكرناه هو جزء من حديث أبي هريرة الطويل أطول من هذا، ذكر فيه خمس خصال، والخمس هذه تصحُّ منها ثلاث، واثنتان تبقى ضعيفة، فأولى هذه الثلاث: (خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)، فهذه الفضيلة ثابتة للصائمين في أحاديث أُخر في الصحيحين، فمن ذلك: قوله – عليه الصلاة والسلام- : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) [متفق عليه]، فالحديث الأول – حديث أبي هريرة – بيان أنَّ هذا في رمضان، وهو عام في كل صائم، لكن في رمضان أولى، وأحرى، وأظهر، قال: (أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ)، فنصَّ على الصِّيام – صيام رمضان -، وهو عام في كل صوم، لكن رمضان في الـمقدمة، وقد دلَّ عليه كما قلنا الأحاديث هذه، منها: قوله – عليه الصلاة والسلام – : (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)، [متفق عليه، وهذا لفظ البخاري]، قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى – في “اللطائف” [لطائف الـمعارف – ت السواس (ص: 300)]: (خلوف الفم): رائحة الفم وهو ما يتصاعد منه من الأبخرة؛ لخلو الـمعدة من الطعام، وهذه الرائحة مستكرهة في شم الناس) إذا شمها الإنسان منك يبغضها، لكنَّها وإن كانت مستكرهة في شم الناس إلا أنها (عند الله – سبحانه وتعالى – طيبة؛ حيث كانت ناشئة عن طاعته، وابتغاء مرضاته – سبحانه وتعالى -) فكانت محبوبة له أطيب عند الله أفضل عند الله من رائحة الـمسك، والنَّاس يفرون منها، فإذا شمها الإنسان من أخيه، وكذلك أخوه إذا شمها منه، فإنَّ كل واحد يكره مثل هذه الريحة، لكنها عند الله محبوبة، (وهذا شبيه بدم الشهيد يوم القيامة؛ فإنَّه يأتي يوم القيامة وجرحه يثغب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح الـمسك)، فهذه الرائحة محبوبة؛ لأنها ناشئة عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، وهذا الحديث فيه قسم منه ﷺ على تأكيد الأمر؛ يعني تأكيد محبَّة الله لها، حيث قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)، يعني أفضل عند الله من رائحة الـمسك الذي هو أطيب الطِّيب كما قال – عليه الصلاة والسلام-: (أَطْيَبُ الطِّيبِ: الْمِسْك)[ أخرجه مسلم في “صحيحه” برقم (2522)]؛ وذلك كما ذكرنا لأنَّها ناشئة عن طاعة الله وهي الصوم، فلهذا أقسم النبي – عليه الصلاة والسلام – على ذلك، وجاء عند مسلم بلفظ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)، وجاء عند أحمد : (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) بدون قسم كما تقدم معنا، وجاء أيضًا عند أحمد بلفظ: (خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ – أَوْ قَالَ: أَحَبُّ – إِلَى اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ)، وهذا فيه بيان معنى الطِّيب ما الـمراد به؛ الـمحبَّة، فهو عند الله أحب من ريح الـمسك عندكم، وإن كنتم أنتم في الدنيا تكرهون شمها من بعضكم البعض، فهذا فيه بيان فضيلة هذه الخصلة للصائمين، فهنيئًا للصائمين بهم، وبها يثبت قوله – عليه الصلاة والسلام – في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: (أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ من الأمم قَبْلَهمْا)، وذكر فيها هذه الخصلة، فالحديث وإن كان ضعيف بذكر الخصال كلها؛ إلا أنَّ هذه الخصلة وهي طيب ريح فم الصَّائم خلوفه، فالخلوف كما قلنا الرائحة الـمستكرهة، يقال فيها خَلوف بالفتح، ويقال فيها خُلوف، بالضم، كله جائز، ومن فضائل شهر رمضان أيضًا: أنَّه سبب عظيم من أسباب حبس النَّاس عن الخصومات، والشجار، والسباب، والشتام، والقتال، يعني التحارب، فقد جاء ذلك عن رسول الله ﷺ مبينًا، قد جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله ﷺ قال في أثناء حديث: (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) خر جه البخاري بهذا اللفظ، وخرجه مسلم، وأحمد وفي رواية للبخاري: (فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ) إني صائم، إني صائم، وجاء عنه – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ: (لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ) خر جه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وعنه – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله ﷺ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) خرجه البخاري، وفي رواية أخرى عنده: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ)، وزيادة عليها: (وَالْجَهْلَ)، فأضاف : (وَالْجَهْلَ)، إذًا: فيصبح: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ ؛ فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)، فهكذا جاءت الأحاديث عن رسول الله ﷺ ، وهذه الزيادة أيضًا عند الإمام أحمد – رحمه الله – في “مسنده”، ولذلك جاء ما يدل على أنَّ الصِّيام الحقيقي إنَّما هو مع صومك عن الطعام والشراب وسائر الـمفطرات؛ أن تصوم عن اللَّغو، وعن الرَّفث، وعن الجهل، وعن السباب، وعن الشتام، هذا هو الصِّيام الصحيح الكامل، وإذا سب أو شاتم أو نحو ذلك؛ فإنه ينقص أجر صومه حتى يضعف جدًا، لكن ما يبطل، وإنَّما يضعف أجر الصوم، لِما؟ ، لأنَّه لم يصم الصيام الكامل الـمطلوب كما قال – عليه الصلاة والسلام- : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ)، والسباب، والشتام، والرفث؛ فهذا: (فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)، فتبين أنَّ الصِّيام الحقيقي الكامل ليس هو الصِّيام عن الطعام والشراب، عن الأكل والشرب، وإنَّما ما كان على هذا النحو؛ فإنَّ هذه الأمور تُضعف أجر الصوم وتُنقصه، لـماذا؛ لأنَّ الصِّيام جُنَّة، الصِّيام جُنَّة يُتقى بها كما يتقي الـمقاتل ضرب عدوه، يأخذ باليسار الجُنَّة الترس، ويضرب باليمين بسيفه، فإذا جاء عدوه أو خصمه الذي يبارزه ويقاتله، يريد ضربه، اتقاه بهذه الجُنَّة، فإذا كانت الجُنَّة قوية متينة جيدة؛ فإنَّها تدفع عنه الهلاك، وإن كانت ضعيفة نفذ إليه ضرب خصمه، فربما قتله، فهكذا الصِّيام هو كالجُنَّة بيد الـمقاتل، كما قال – عليه الصَّلاة والسَّلام – : (الصِّيَامُ جُنَّةٌ أَحَدِكُمْ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ) [أخرجه أحمد في “مسنده” برقم (2230)، وابن ماجه في “سننه” برقم (1639)، والنسائي في “سننه” برقم (2231)، وصححه الألباني في “صحيح الجامع الصغير” برقم (3879)]، كما أنَّ بين يديك جُنَّة من القتال – كما قلنا لكم الترس تتقي به ضرب العدو فلا يقتلك فيهلكك -؛ فهكذا الصِّيام على هذا النحو الذي تقدم هو جُنَّة لك أيُّها الـمسلم من النَّار، كالجُنَّة الـمتينة القوية للمقاتل من الهلاك في حال القتال، وجاء أيضًا عند الإمام أحمد أنَّ النبي ﷺ قال: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ)[في “مسنده” برقم (9225)] ، وإذا كانت جُنَّة وحصنًا؛ فإنَّك لا تخرق هذه الجُنَّة، ولا تخرق جدر أو جدار هذا الحصن، فيدخل عليك منه عدوك، فإنَّ الحصن الحصين كما قال النبي ﷺ لا يدخل عليك منه العدو، ولا يدخل عليك من يريد قتلك وإهلاكك، فهكذا: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ)، وهذا الصيام على هذا النحو ما لم تخرقه، فإنَّه قد جاء أيضًا عن النبي أنَّه قال: (الصِّيام جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا) [أخرجه أحمد في “مسنده” برقم (1690)، والنسائي في “سننه” برقم (2235)]، وجاء عند الدارمي زيادة: (مَا لَمْ يَخْرِقْهَا بِالْغِيبَةِ) [في “مسنده” برقم (1773)]، ولهذا قال الصحابي الجليل الفقيه جابر بن عبد الله – رضي الله تعالى عنهما-: (إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَآثِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صِيَامِكَ سَوَاءً) [أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنفه – دار التاج” (271/2) برقم (8880)]، يعني لا تطلق لسانك، ولا تطلق سمعك، ولا تطلق بصرك، فلا تطلق البصر في النظر الـمُحرَّم، ولا تطلق اللسان في الكلام الـمُحرَّم من كذب، وزور، وبهتان، وغيبة، ونميمة، وسب، وشتام، ورفث، فإنَّ الرَّفث هنا في هذا الحديث الـمراد به قبيح الكلام مطلقًا، فلا تطلق لسانك في قبيح الكلام، وليصم لسانك، وهكذا ليصم سمعك أيضًا عن سماع الـمحرمات؛ فلا تسمع الأغاني، ولا تسمع الـموسيقى، ولا تسمع ما يتعلق بأنواع الـملاهي من سائر الـمعازف، وهكذا لا تستمع إلى قول الزور، ولا تستمع إلى شهادة الزور، ولا تجلس مجالس الزور، ولا تقترب من أصحاب اللَّغو والرَّفث، ولا أصحاب الخصام والشتام، فتصون سمعك عن كل ما يجرح صومك، ويخرق جُنَّتك، فالصوم جُنَّة من النَّار، وحصن حصين من النَّار، فلا تخرقه بمثل هذه الأمور، وحينئذ فيكون لك الأجر الذي جاء النص عليه في هذه الأحاديث عن رسول الله ﷺ، وهذا والله لو لم يكن إلا هذا في فضائل صيام شهر رمضان لكفى أجرًا، لكفى أجرًا، ولكفى سببًا في أن يرتدع النَّاس عن الوقوع في مثل هذه الـمحرمات، وهذا واضح في عموم بلدان الـمسلمين في شهر رمضان؛ فإنَّ الخصومات بين النَّاس في الشوارع تقل، وفي الأسواق تقل، وفي الـمنازل تقل، وفي كل مكان تقل، وما ذلك منهم إلا مراعاة لصومهم، ومحافظة عليه، وحرصًا على حصول الأجر التام الذي وعد به نبينا ﷺ، هذا وأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعلنا وإياكم من الحافظين لصيامهم، ومن الواقفين عند حدود الله -تبارك وتعالى-، والواقفين عند ما أمرنا الله به، وأمرنا به رسوله ﷺ، ونهانا عنه، ونهانا عنه رسوله ﷺ ، كما أسأله -سبحانه وتعالى – أن يرزقنا الفقه في الدين والبصيرة فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله – جل وعلا – أن يغفر لنا ولكم ولعموم المسلمين الأحياء منهم والـميتين، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرس الرابع : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: اقرأ المزيد
فهذا هو اللقاء الرابع في مجالسنا في هذا الشهر المبارك -شهر رمضان-، عام خمسة وأربعين وأربع مئة وألف من هجرة سيد الخلق -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا المجلس -معاشر الأحبَّة – أو هذا اللقاء هو في بيان كيف كان فرض الصوم صيام رمضان -، كيف كان فرض الصَّوم، وكيف كانت صورة الصَّوم حتَّى انتهت إلى ما نحن عليه اليوم، فنقول مستعينين بالله – تبارك وتعالى -: قال الله – جل وعلا -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)) [سورة البقرة]، فهذه ثلاث آيات في سورة البقرة جاء فيها بيان فرض الصَّوم، وكيف كان، وقد دلت الآية الثانية منها والآية الثالثة على ذلك؛ وأنَّه كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: التخيير بين أن تصوم أو تُطعم، فكان المسلم في أوَّل الأمر مخيرًا بين أن يصوم، أو يُفطر ويُطعم عن كل يوم مسكينًا، وهو قادر مستطيع يصوم، لكن هو بالخيار، هذا كان في أوَّل الأمر؛ بين أن يصوم أو يُطعم ويفطر، قال الله – جل وعلا – في هذه الآية: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ)، فهو مُخيَّر بين أن يصوم وبين أن يفطر ويُطعم، هكذا كان في أوَّل الأمر، فيجوز له هذا وهذا، ثم بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية: وهي قوله – تبارك وتعالى -: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، فهذه الآية التي بعد السابقة فرضت الصَّوم، ورفعت التخيير، فأصبح الصَّوم من ذلك الحين فرضًا عينيَّاً على المستطيع له وهو من أهله، المستطيع للصوم وهو من أهله، صار فرضًا عليه، ولا تخيير بينه وبين الإطعام، وبقي الإطعام في حق غير المستطيع؛ إمَّا لكبر السن وضعف القوى، وإمَّا بسبب المرض المانع من الصَّوم المستمر مع صاحبه؛ مثل أصحاب الفشل الكلوي – أجارنا الله وإياكم من ذلك -، فهؤلاء يحتاجون إلى الغسيل، ويحتاجون إلى الشراب الدائم الماء -، فالكلى عندهم مريضة تضمر حتَّى تضعف فتتلف، وإذا كانت الأمراض على هذا النحو، ومثله صاحب داء السكري الذي لا ينضبط معه ويتعب منه، وهكذا بقية الأمراض الشديدة التي تعرفونها ولا نريد أن نسميها – عافانا الله وإياكم منها وسائر إخواننا المسلمين -، فكلُّ مرض يصعب معه الصَّوم وهو مستمر بصاحبه لا يُفارقه؛ فهذا يطعم ولا شيء عليه، فبقي الإطعام في حق هذا، وفي حق الكبير في السن أيضًا كما قال عبد الله بن عباس – رضي الله تبارك وتعالى عنهما -، وقد دلَّ على ذلك دلالة واضحة حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – المخرَّج في “الصحيحين” حيث قال – رضي الله عنه -: لمَّا نزلت: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) – يستطيعون أن يصوموا ولكن لهم الخيار- كان من أراد أن يُفطر أفطر ويفتدى فعل؛ (حتَّى نزلت الآية التي بعدها فنسختها) ويعني بها قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية، فهذه الآيات الثلاث فيها بيان فرض الصَّوم، وفيها بيان فرضه علينا هذه الأمَّة كيف كان في أوَّل الأمر على التخيير، ثم بعد ذلك استقرَّ الأمر فيه على الإيجاب العيني إلا من استثني كما ذكرنا لكم، فهكذا كان في أوَّل الأمر، وهذا حاله الذي نحن عليه هو الذي استقر عليه الأمر، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يوفقنا وإياكم جميعًا لمرضاته، وأمَّا صورته كيف كانوا يصومون؛ فهذه مسألة أخرى، كيف كان يصوم النَّاس في أوَّل فرض الصَّوم عليهم لمَّا فرض بدون تخيير، كيف كانوا يصومون؟، فهذه هي صورة الصِّيام، هذه هي صورة الصِّيام في أوَّل فرضه، وهذه المسألة قد جاءت فيها أحاديث في “الصحيحين” وغيرهما: فمن ذلك ما جاء في البخاري عن البراء بن عازب – رضي الله تبارك وتعالى عنه – قال: (لَمَّا نَزَلَ صَيامُ رَمَضَانَ، كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ)، يعني لا في الليل ولا في النَّهار، في النَّهار هو معروف محرَّم، وفي الليل أيضًا، هذا أوَّل الأمر (كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فأنزل الله على نبيه ﷺ قوله – جل وعز -: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ)[البقرة]، وهذا نزل بسبب وجود بعض من خان نفسه في هذا، ولذلك يقول سلمة بن الأكوع: (وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ)، وهو نص الآية: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ)، وسيأتينا البيان فيه، فجاء هكذا (لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ، كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ)، هذا فيه مشقة، هذا كان أوَّل الأمر، فأنزل الله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) إلى آخر الآية، وجاء عند البخاري أيضًا في باب: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) من حديث البراء أيضًا قال: (كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ) يعني حان وقت الإفطار (فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ) يعني مثلاً لو جئت أنت من العمل من الدوام، وهكذا السابق لو جاؤوا من أسواقهم، أو جاؤوا من مزارعهم، فأخذ الإنسان راحة قليلاً قبل الإفطار، فلو نام يَحرم عليه بعد ذلك الأكل والشرب والجماع إلى الليلة القابلة مثلها إذا أفطر، هكذا في أول الأمر: (إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ) ونحن ضربنا المثال هذا وأدخلناه في أثناء الحديث حديث البراء للتوضيح، الآن بعض النَّاس في الشركات، وفي الأعمال المرنة يداوم السَّاعة العاشرة، يأتي السَّاعة الرابعة والنصف أو الخامسة عصرًا على حسب دوامه، فيحتاج إلى أن يرتاح قليلاً، فإذا أخذته عينه في هذه الراحة راحت عليه هذه الراحة بالراحة، فينام، فيقوم، فلا يحلُّ له أن يأكل ولا يشرب، ولا يأتي أهله إلى مثلها الليلة القادمة، فإذا أفطر جاز له ذلك، وإذا لم يفطر أيضًا نام مرة أخرى يطبق عليه الحكم، ويصير ليلة ثانية، وهكذا، فهكذا كان في أول الأمر، يقول البراء بن عازب – رضي الله عنه -: (فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ) من؟، قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ، ويروى في بعض الألفاظ: صرمة بن قيس، قيس بن صرمة، ويقال صرمة بن قيس: (وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ) ويقال له كما قلنا صرمة بن قيس كما هو عند أبي داود وغيره نام، كان صائم، فجاء إلى البيت، نام قبل أن يفطر، ولم يأكل ليلته ولا يومه، بكرة يعني يوم بكرة حتى أمسى، ثم غُشي عليه في اليوم الثاني فرفع للنبي ﷺ، فأنزل الله – سبحانه وتعالى -، وجاء عند أبي داود وهو أيضًا عند البخاري أنَّه جاء إلى زوجته قبيل المغرب فقال: (أعندكم شيء؟)، يعني أكل، ويروى أيضًا وهو صحيح (أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا)، (ألديكم طعام آو أعندكم طعام؟ قالت: لا)، انظروا نحن كم في بيوتنا، ثمَّ قالت: (وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ) تذهب إلى الجيران تأخذ له، كم في بيوتنا من المآكل؟، يأتي إلى رمضان القادم ينتهي تاريخه، وما أُكل، فلا إله إلا الله، كيف حالنا، وكيف كان حالهم، وكيف كانوا هم من القوة في الدين مع ضعف الأبدان لقلة القِوام الذي يقيمها من الأكل والشرب والطعام، وكيف نحن!، فنسأل الله أن يتجاوز عنا وعن سائر إخواننا المسلمين بمنه وكرمه، فقالت له – رضي الله عنها – زوجته لمَّا جاء وقال لها: (أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ)، ذهبت تبحث مع الجيران، رجعت وجدته قد نام، (فقالت: خَيْبَةً لَكَ)، لم؟، لأنَّها تعلم أنَّه قد مُنع من الطعام ومن الشراب إلى القابلة، فهي الآن تتحسر عليه، تقول له: خَيْبَةً لَكَ، يعني خبت؛ لأنَّك نمت، (فقالت: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا كان من الغد وانْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ)، وجاء عند أبي داود (وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ فِي أَرْضِهِ)، يعني له زراعة، حرث يشتغل فيه، فلما شقّ عليه العمل في منتصف النَّهار وهو صائم من يومين من قبل أمس وما أكل أمس كله والبارحة كلها، واليوم انتصف عليه النَّهار فغشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية، ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت أيضًا قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الآية، وجاء عند أبي داود من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، قال: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ إِذَا صَلَّوُا الْعَتَمَةَ – يعني العشاء منعوا من الأكل والشرب والنساء -، (حَرُمَ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ) إذا صلوا صلاة العشاء، إذا صلوا العشاء حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، (وَصَامُوا إِلَى الْقَابِلَةِ، فَاخْتَانَ رَجُلٌ نَفْسَهُ، فَجَامَعَ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يُفْطِرْ، فَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ يُسْرًا لِمَنْ بَقِيَ وَرُخْصَةً وَمَنْفَعَةً، فقال سبحانه: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ)، يقول -رضي الله عنهما-: (فكَانَ هَذَا مِمَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ وَرَخَّصَ لَهُمْ وَيَسَّرَ)، فتبيَّن من هذه الأحاديث الآتي: الأوَّل: أنَّهم كانوا في أوَّل صفة الصَّوم ممنوعين من النِّساء رمضان كلَّه، والطعام والشراب مسموح لهم إلى أن يناموا، فلو نام مثلاً السَّاعة العاشرة، أو الحادية عشرة بتوقيتنا الآن، إذا قام خلاص ما عاد فيه شراب، ما عاد فيه أكل، ما عاد فيه سحور، انتهى، يمسك إلى القابلة، أما إذا كان مثل صرمة بن قيس أو قيس بن صرمة نام قبل الغروب؛ فهذا يمسك ليلته كلها، هذا كان أوَّل الأمر، كان أوَّل الأمر النِّساء ما في، الطعام والشراب على هذا النحو، فحصل سببان: ضعف البدن -كما هو في قصة صرمة بن قيس – أو قيس بن صرمة – كما هو عند البخاري ضعف البدن بسبب طول المدة، والثاني أيضًا الذي حصلت به الرخصة هو اختيان بعض الناس أنفسهم، فاختان رجل نفسه، وحديث البراء: (وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ) وذلك أنَّ بعضهم جاء إلى أهله بعد العشاء، يريد حاجته منها، فقالت له: إني قد نمت، فجبرها على نفسها، وظن أنَّها تتعلل يعني تتملص منه ما تريد قضاء حاجته ووطره منها، يقول: ظننت أنها تتعلل؛ يعني تبدي لها علَّة ولو لم تكن صادقة، فجبرها، ونال منها ما نال الرجل من أهله، وهي أهله، فغدى إلى رسول الله ﷺ، فأخبره بذلك، فأنزل الله – عز وجل -: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) الآية، فجاء هذان السببان؛ الضعف البدني، وأيضًا الحالة المعنوية، حاجة الإنسان إلى أهله يشقُّ عليه، وقد يحتاج إلى أهله في الليل ليقضي حاجته وهو ممنوع، فحصل أن بعضهم اختان نفسه، وجامع أهله، فجعل الله هذين الأمرين سببًا في التخفيف عن أمَّة محمَّد ﷺ، فأنزل الله – سبحانه وتعالى – هذه الآية: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الآية، فجاءت هذه الرخصة من الله – جل وعلا – لعلمه – سبحانه وتعالى – بضعف العباد، فاستقر الصَّوم على ما نحن عليه؛ أنَّ المرء يأكل ويشرب، ويأتي أهله في الليل، حتَّى إذا طلع الفجر كفَّ عن ذلك، ويصوم حتى تغيب الشمس، وهذه من رحمات الله – تبارك وتعالى -، فهذه الأحاديث فيها بيان أنَّ المسلمين في أوَّل الأمر كانوا إذا أفطروا يأكلون ويشربون، ولا يأتون النِّساء – كما قلنا -، يأكلون ويشربون، ولا يأتون النِّساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يجز لهم أن يفعلوا من ذلك شيئًا إلى الليلة القادمة، كما جاء هذا في بعض طرق حديث البراء، فإنَّه قال: (أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا نَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَشَّى – يعني يفطر – لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا وَلَا يَشْرَبَ لَيْلَتَهُ وَيَوْمَهُ مِنَ الْغَدِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ)[أخرجه النسائي في “سننه” برقم (2168)]، وجاء أيضًا: كان المسلمون (وَكَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا) لم يفعلوا من ذلك شيئاً [أخرجه أحمد في “مسنده” برقم (22124)]، إلى مثلها، فهذه الروايات دالة على أنَّ المنع من ذلك مقيد بالنوم، وحديث ابن عباس – رضي الله تبارك وتعالى عنهما – مقيد فيه بالعتمة، بصلاة العتمة، إذا صلوا العشاء لم يجز لهم الأكل، خلاص، امسكوا، فمثلاً لو فرضنا أنَّ الإمام يؤخر العشاء أعلى شيء تتأخر فيه إلى نصف الليل، أعلى شيء، فالعشاء تؤخر إلى الثلث، وآخر شيء إلى النصف: وبالغروب مغرب قد دخلا ** ووقتها يبقى امتداده إلى غيبوبة الحمرة وهو أول ** وقت العشا وفي اختيار نقلوا تأخيرها لثلث ليل وإلى ** نصف وكل في الصحيح نقلا فالشاهد: لو فرضنا أنَّه أخر شيء وهو وقت الاختيار؛ نصف الليل، فمن الثانية عشرة ما عاد يأكل مثلاً، فهذا هو الذي جاء في حديث ابن عباس أنَّه إذا صلى العشاء حرم عليه الأكل والشرب والجماع، الحديث السابق: إذا نام وهو حديث البراء في صرمة بن قيس – أو قيس بن صرمة – أنَّه إذا نام امتنع، فهذان سببان: إمَّا النَّوم، وإمَّا صلاة العشاء، إمَّا النوم قبل العَشاء ولا بعد العَشاء، إما النَّوم بعد العِشاء أو قبل العِشاء، قبل عَشاء ولا بعد عَشاء، فإذا استيقظت مافي، وإمَّا أن تكون صلاة العشاء، فرفع الله ذلك كله، وقيس بن صرمة أو صرمة بن قيس: اختلف في اسمه؛ قيل الأول، وقيل الثاني، ورجَّح الحافظ ابن عبد البر أنَّه أبو قيس صرمة بن أبي قيس؛ فلأجل ذلك حصل الخلط في اسمه، هو أبو قيس صرمة بن قيس، فقال بعضهم فيه: قيس بن صرمة، وليس هو قيس بن صرمة، وإنَّما هو أبو قيس صرمة ابن أبي أنس ابن قيس، فكانوا ينسبونه إلى جده الذي هو قيس، فيقولون صرمة بن قيس، ويحذفون والده أبا أنس، وهو قيس بن صرمة – على رواية البخاري -، فحصل فيه الغلط من هنا، قيس بن صرمة وإلا هو صرمة بن قيس، وهو أبو قيس صرمة بن قيس، وإذا جئت تردده هو أبو قيس صرمة ابن أبي أنس قيس، فيحذفون أبا أنس، ويقولون فيه قيس، فمن هنا حصل هذا الخلط، وقد روي أيضًا أنَّ من هؤلاء الذين وقعوا في هذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنَّه جاء إلى أهله يريد حاجته، فصار معه هذا الذي صار فأنزل الله – سبحانه وتعالى – هذه الرخصة من الله – تبارك وتعالى -، فاستقر أمر الصِّيام على ما نحن عليه الآن، فالحمد لله كما قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: (الحمد لله الذي رخَّص لنا ويسَّر)، ولا من كان يستطيع يصوم هكذا!، وخصوصًا أصحاب المهن أصحاب الأعمال الجسمية؛ الحارث الذي يحرث، والزارع، والصانع، وبقية أصحاب المهن التي يعالجون فيها الأحمال، والأثقال، والعمل الشاق، هؤلاء مع أكلهم للسحور اليوم ترون فيهم ماذا؟، الضعف والإجهاد، فكيف لو كانوا على أوَّل الأمر، الواحد ما يستطيع ينتصف النَّهار إلا وقد أغشي عليه مثل صرمة بن قيس – رضي الله عنه -، فهكذا كان الصَّوم، وهكذا استقر الصَّوم على ما نحن عليه اليوم، فالحمد لله الذي منَّ علينا، ويسَّر علينا، ولطف بنا ورحمنا وهو الرحيم بعباده – جل وعز -، وعند هذا نقف، وننتهي في هذا المجلس، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم، وأن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه من أعمال البر والخير، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعل آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.