لا يقبلها أو ينكر شيئاً من أخبار رسول اللہ ﷺ فاتهمه على الإسلام – الشيخ د. ربيع المدخلي

  • قال الإمام البربهاري – رحمه الله : وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبـار رسول اللہ ﷺ، فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء القول والمذهب، وإنما طعن على رسول اللہ ﷺ، وعلى أصحابه؛ لأنه إنما عرفنـا الله، وعرفنـا رسـول الله ﷺ وعرفنا القرآن، وعرفنا الخير والشر، والدنيا والآخرة، بالآثار.

– قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي معلقًا : يقول: (وإذا سمعت الرجل يطعن في الآثار ولا يقبلها) أحاديث الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأقوال الصحابة، إجماعهم، وما شاكل ذلك، وأقوالهم التي تنسجم مع الكتاب والسنة.

(ولا يقبلها أو ينكر شيئاً من أخبار رسول اللہ ﷺ فاتهمه على الإسلام) يعني هذا كان يحصل من الجهمية، ومن المعتزلة، ومن المرجئة، ومن الخوارج، ومن غيرهم من أهل البدع، كان يحصل منهم، فهؤلاء متهمون في الإسلام، الروافض وغيرهم، ثم في الأخير شاركهم الأشعرية، يردون كثيراً من الأخبار، ويقولون هذه أخبار آحاد، في باب العقائد، يعني باب العقائد عندهم في الغيبيات ما يقبل إلا الأدلة القطعية، إما من الكتاب وإما من السنة المتواترة، لابد في العقائد أن تكون الأحاديث قطعية الثبوت يعني متواترة، قطعية الدلالة يعني نصوص واضحة لا تحتمل شيئاً، فردوا كثيراً من النصوص بحجة أنها أخبار آحاد، وأخبار الآحاد تفيد الظن عندهم، ويقولون في الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة إنها وإن كانت قطعية الثبوت فإنها ظنية الدلالة.

ومن أسلحتهم: المجاز، ومن أسلحتهم: التأويلات الباطلة التي هي في الواقع تحريفات لنصوص الكتاب والسنة، فهؤلاء لا شك أنهم أهل بدع، وأهل أهواء، وقد يندس في أوساط أهل البدع منافقون، وزنادقة يحاربون الله ورسوله، ولكن يتسترون بالإسلام، هذا يحصل، هذا الدس خاصة في الروافض، يندس فيهم منافقون وزنادقة، فيردون نصوص القرآن، ويردون نصوص السنة، وأغلب ما يردون به هي التأويلات ثم دعوى أن الأخبار آحاد، يعني ما تفيد إلا الظن ! ، والعقائد ما تثبت بالظنون ! ، ولابد في العقائد من أدلة قطعية ! ، قطعية الثبوت قطعية الدلالة ! ، ثم تجرهم هذه القواعد الخبيثة إلى رد الآيات وتحريفها وتأويلها، فيأتون إلى آيات الصفات مثلاً فيتأولونها، يقولون في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، يعني: استولى! يقولون: استوى ما هو نص هذا مجاز! هذا استوى بمعنى استولى!

قـد اسـتـوى بشـر عـلـى العـراق  مـن غيـر سيـف ودم مهــــراق

فاستوى بمعنى استولى! تأويل ومجاز ، قال شيخ الإسلام رحمه الله(مجموع الفتاوى” (6/ ٢٩٧)):

قبحًا لمن نبذ الكتـاب وراءه     وإذا استدلّ يقول قال الأخطل

يقولون في اليدين: اليد بمعنى القدرة! كيف؟ لأنه لا يليق بالله تبارك وتعالى أن يكون له يدين! ، لأنا إذا أثبتنا لله يدين شبهناه بالمخلوقين! وجعلنا له جوارح! وجعلنا له أدوات! إلى آخر التأويلات الباطلة. 

تأتي الأحاديث في اليدين يتأولونها، تأتي الآيات يتأولونها، مثلاً القرآن يأتي يثبت اليدين، يقولون: لا نأخذه على ظاهره؛ لأن العقل يأبى هذا، وإذا أثبتنا هذا أيضاً نكون مجسمة، وشبهنا الله بالمخلوق، إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . 

نقول لهم: إن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: ۱۱]، فنفی عن نفسه المماثلة والمشابهة وأثبت لنفسه الصفات اللائقة به، وهو كونه يسمع ويبصر ، فسمعه وبصره نؤمن به، ونثبته على أساس أنه: ليس كمثله شيء، له سمع لايشبه سمع المخلوقين، له بصر لا يشبه بصر المخلوقين، له استواء لا يشبه استواء المخلوقين، له عينان لا تشبه عيني المخلوقين، الصفات التي وردت في الكتاب و السنة نؤمن بها، ونثبتها على أساس الإيمان بها، وعلى أساس تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين ، فهؤلاء الذين يردون الآثار عندهم هذه التأويلات إما مجاز وإما أخبار آحاد، وعطلوا بها هذه الصفات، وأخذوا بعض النصوص المتشابهة، مثل قوله: «ليس كمثله شيء» أخذوا منه سلاحاً لتعطيل الصفات كلها أو معظمها ، الله قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، ثم قال بعدها: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، أين عقلك؟ ، فلو كان يريد نفي الصفات عن ذاته لما قال (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فلما قاله أرشدنا إلى أننا يجب علينا أن نؤمن بصفاته ولكن مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فنثبت السمع والبصر على أساس أنه ليس كمثل المخلوقين في السمع والبصر، ونثبت الاستواء على أنه ليس كاستواء المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى، نثبت العلم، والإرادة، والقدرة، والنزول، والمجيئ، والوجه، واليدين، إلى آخر الصفات التي أثبتها الله في كتابه وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسّلام، على أساس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نؤمن ونثبت لله هذا المعنى، وندين الله بأنه حق، لكن على أساس نفي مشابهة الله تبارك وتعالى للمخلوقين، فسمعه لا يشبه سمع المخلوقين، بصره لا يشبه بصر المخلوقين، يداه لا تشبه يدي المخلوقين، نزوله، مجيئه، إلى أخر صفاته الواردة في الكتاب والسنة، على أساس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فلا يشبهه شيء من مخلوقاته.

وأما أن نأخذ من (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) منطلقاً لتعطيل صفاته، فهذا من الكذب على الله؛ لأن الله تبارك وتعالى قد ملأ القرآن بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ولو أراد نفيها ما أثبت شيئاً منها.

نأتي إلى صفة الرحمة، كم ذكرها الله في القرآن؟ ، ذكرها أكثر من خمسمائة مرة، مؤكدة، ومكررة، وعند هؤلاء المعطلة من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، عندهم في اللغة: التكرار يرفع احتمال المجاز والتأكيد يرفع احتمال المجاز، طيب التكرار والتأكيد موجودان في كل صفات الله عزوجل خاصة هذه صفة الرحمة، مذكورة في القرآن أكثر من خمسمائة مرة، هم يتأولونها، يتأولون صفة الرحمة، لماذا؟ ، الرحمة عندهم هي إرادة الإحسان! إرادة الإحسان لأن الله منزه عن الرحمة! ، لأن الرحمة ضعف!، وهذا غير صحيح، فالرحمة لا تصدر إلا من القوي، لا من الضعيف العاجز.

الله يقول: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: ٢] ،  (وَإِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَـنُ الرَّحِيمُ) في سورة البقرة، ومروا إلى آل عمران وغيرها، وغيرها، خمسمائة مرة، يعني وصف الله تبارك وتعالى نفسه بالرحمة، تکرار وتأكيد، أين قواعدكم في اللغة؟ ، إن التكرار يرفع احتمال المجاز، وإن التأكيد يرفع احتمال المجاز، أين قواعدكم الآن؟ ، لا تؤمنون بما كان عليه الرسول وأصحابه، والقواعد التي تسلمون بها لا تسلمون بها في أسماء الله وصفاته، العبد المخلوق الذي يحتمل كلامه الكذب إذا كرر عندكم يرتفع احتمال المجاز، وكلام الله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: ١٢٢] يريد أن يثبت لكم حقيقة، وأنه موصوف بالرحمة، ويؤكد لكم أكثر من خمسمائة مرة، ثم تأكيده وتكراره هذا لا ترفعون به رأساً؟ ، أي هوئ هذا؟ ، فالشاهد: أن هؤلاء المبتدعة -قبل كل شيء- يحاربون سنة رسول الله خاصة في باب العقائد، في إثبات صفات الله، في عذاب القبر، كالمعتزلة والخوارج، في الشفاعة، في الميزان، في الصراط، … هذه ما فيها أدلة قطعية، فينفونها، لماذا؟ ، لأنها جاءت عن طريق الآثار، وهي أخبار آحاد، وأخبار الآحاد ما تفيد إلا الظن، والعقائد لا يجوز أن تبنى على الظن، ومثل هذه الترهات، والتأويلات، والمجازات، التي قابلوا بها سنة رسول الله عليه الصلاة والسّلام، الذي كان يجب أن نقابلها بالاحترام والتصديق والإيمان بها، وأن رسول الله عليه الصلاة والسّلام ما ينطق عن الهوى، وأنه ما أحد أصدق من الله تبارك وتعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) ،  يجب أن نصدق بكل هذه الأشياء، ونؤمن بها، وندين الله تبارك وتعالى بها، فبدل من هذا، يأتون بهذه القواعد، يعطلون بها، ويدفعون بها في صدر هذه النصوص، فهم متهمون في دين الله كما قال هذا الرجل رحمه الله: (وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها) إما بأخبار آحاد، أو بأي علة من العلل، أو بمجاز، أو غيره، (أو ينكر شيئاً من أخبار الرسول فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء) ولا شك أنه رديء، وهذا كله دعوة إلى احترام السنة، والإيمان بما ورد فيها، سواء تعلق بصفات الله، أو تعلق بأمور غيبية من عذاب القبر، ومن الشفاعة، ومن المرور بالصراط، ومن الميزان، ومن غيرها من الأوصاف التي وردت في الجنة ونعيمها، وما شاكل ذلك، هذه كلها نؤمن بها، ما جاء منها عن طريق التواتر وما جاء من طريق الآحاد، لكنه عن طريق الثقات الصادقين بارك الله فيكم، فنحن نقبله.

أخبار الآحاد يقولون: تفيد الظن، وتحتمل الوهم والخطأ ، نقول: نعم، هذه في أخبار البشر، غير الرسول، أما رسول الله عليه الصلاة والسّلام فإن الله قد وعد بحفظ الدين والذكر والوحي الذي يأتي به هذا الرسول، كما قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، وقد حفتهما جميعاً عناية الله بالرعاية والحفظ، فلم يضع منها شيء أبداً؛ لأنها من عند الله، وإذا كان أخبار الآحاد يعتريها الوهم والخطأ، فإن سنة رسول اللہ ﷺ محفوظة، وإذا وهم أحد على رسول الله في كلمة، أو أخطأ في جملة، أو في حرف فإن الله قد هيأ من هذه الأمة رجالاً يبينون هذه الأخطاء، كما قال ابن حبان(في مقدمة كتابه “المجروحين” (1/ ٥٨) ولفظه: إن أحدهم لو سئل عن عدد الأحرف في السنن لكل سنة منها عدها عداً، ولو زيد فيها ألف، أو واو، لأخرجها طوعاً، ولأظهرها ديانة. اهـ)، فلا يخطئ أحد على رسول الله في كلمة، أو حرف، إلا وقد بُين ذلك، ألف، أو واو، أو ياء، إلا وقد بين الله ذلك؛ ولهذا ترى في كتب العلل بيان الأحاديث الضعيفة، شديدة الضعف المتناهي، والضعيفة الضعف المتوسط، والضعف الخفيف، وكتب الموضوعات، وكتب الصحاح، وكتب الرجال، وكتب العلل، كل هذا من عناية الله، وتصديق لوعد الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الدين، فلا يخطئ أحد على رسول الله في كلمة أو في حرف إلا ويهيء الله من يبين هذا الخطأ.

إذن هذه السنة التي حفت بهذه العناية تجعلونها مثل أقوال الناس العاديين، زيد وعمرو كلاهما يخطئ ويهم في النقل، ويخطئ الناس في النقل عنه؛ لأن الله ما ضمن أن يحفظ كلام الناس كلهم، خص بهذه العناية كتابه العظيم وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بحفظ ما جاء به (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فالعناية التي حفها الله بالقرآن هي موجودة مثلها في السنة، لقد لقيت السنة عناية عظيمة جداً، العناية بمثل القرآن عناية عظيمة جدًا، سخر الله مئات من الأئمة الفحول، أقوى من القرآء، يعني حفظ الله بهم السنة ، فلا نقيس كلام الرسول عليه الصلاة والسلام على كلام البشر -الذين ما وعد بعصمتهم ولا بحفظ كلامهم- فهم ليسوا معصومين من الظلم، ولا من الأخطاء، وكلامهم ليس بمحفوظ، وليس بمعصوم، والله ما ضمن حفظه، وهذا الرسول عليه الصلاة والسّلام ضمن الله حفظ ما جاء به، فكيف نقول: أخبار الآحاد عن رسول الله عليه الصلاة والسّلام مثل أخبار الآحاد عن الناس الآخرين، هذا من الضلال، ومن الخطل في العقل والرأي.

س: هل حفظ الله للسنة ينفي الوهم في روايتها؟

ج: الوهم يقع فعلاً، لكن يبين، كتب العلل: عند ابن أبي حاتم، علل أحمد، العلل للخلال، العلل للدارقطني، علل لغيرهم، كل هذه عبارة عن أوهام، لكن الله سبحانه وتعالى يهيئ من يبين هذا الوهم الذي نسب صاحبه الحديث إلى رسول الله عليه الصلاة والسّلام، فيبينون وهمه، هل وجدت أحد عني بهذه العناية؟ ، أحياناً ينكر أهل الأهواء أخبار الآحاد الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسّلام من طريق العدول يجعلونها مثل أخبار الناس العاديين، نقول: هناك فرق، هذا كلام الرسول ﷺ، الله وعد بحفظه؛ لأنه يطلب من الناس أن يصدقوا هذا الرسول في أخباره، ويطلب منهم أن يتبعوه في أقواله، في العقائد وفي الحلال والحرام والأحكام، فهل يتعبدهم بالباطل والخطأ والضلال؟ تعالى الله عن ذلك، إذن حفظ هذا الدين، فلا نتعبد الله في حلال في حرام في عبادة في شيء إلا وقد ثبتت عن النبي فعلاً، وأحاطتها عناية الله، ولا نعتقد عقيدة جاءت عن طريق الأحاديث المتواترة أو الآحاد إلا وقد حفتها عناية الله، فهي حق وصدق، نصدق بها، تعلقت بصفات الله، تعلقت بالجنة، بالنار، بالصراط، بالشفاعة، بأي أمر غيبي، هي حق وصدق، نؤمن بها، ونصدقها، وإذا كانت في العمليات والأحكام فنعمل بها؛ لأنها حق، فالله يستحيل عليه ويتنزه أن يكلفنا بعقائد لم تثبت عن النبي عليه الصلاة والسّلام، أو يكلفنا بعبادات، أو في الحلال والحرام، نحلل ونحرم وهو يقول: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ اَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذَا حَلَالٌ وَهٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَۜ) [النحل: 116]، يقول هذا، ويتوعد هذا الوعيد، ثم تأتي أحاديث كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسّلام من طريق الآحاد نحلل بها الفروج، ونبيح بها الدماء، وإلى آخره، وهل تكون هذه الأحاديث ظنوناً وأوهاماً تحتمل الصدق وتحتمل الكذب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومصداق ذلك ما قلنا لكم إن الله قد حاطها بالعناية الكبيرة، فلا يخطئ أحد على رسول الله إلا وبين خطؤه.

س: هل في أخبار الناس يجعل احتمال الوهم سبباً في رد كلامهم؟

ج: لا، إذا كان صادقاً يقبل خبره ولو فيه احتمال ما يرد خبره، إذا شهد شاهدان عدلان أن فلاناً قتل فلاناً، وهما من العدول، ما هما كاذبين، لابد من ثبوت عدالتهما، فإذا كان الواقع كذلك وجب على الحاكم أن يبني على شهادتهما فيحكم بالقصاص إن طلب ولاة القتيل القصاص أو الدية إن عفوا عن القصاص إلى الدية، ولو كان يوجد احتمال أن أحدهما أخطأ لأن الأحكام تبنى على الظاهر، والباطن يوكل إلى الله، ولا يعبأ بهذا الاحتمال.

وإذا شهد اثنان عدلان أن فلاناً تزوج فلانة، فعلى القاضي أن يمضي هذا الزواج ، واحتمال وقوع الوهم، نقول: فيه احتمال، لكن هذا الاحتمال لا قيمة له، إذ سنة الله تبارك وتعالى في أخبار الصادقين أن تكون سليمة، لكن لو فرض أنه أخطأ أو وهم في شهادته، أنت ليس لك إلا الظاهر، هنا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار) (رواه البخاري في “صحيحه” رقـم (٢٦٨٠))، يعني الحاكم ليس له إلا الظاهر، يقوم باللازم من إحضار الشهود، والشهود لهم شروط لابد أن تتوفر فيهم، وإذا احتاج إلى تزكية، ما يعرفهم القاضي يأتي بمن يزكيهم ممن هم عدول عنده، ثم بعد ذلك ينفذ حكم الحد في القاذف، ورجم الزاني، إذا كان الشهود أربعة، وإلى آخر الأحكام، قطع اليد، والقصاص، وما شاكل ذلك، القذف بالزنا لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة لابد أن تتوفر فيهم العدالة، ما يقبل فيه شهادة اثنين بعد أن تتوفر فيهم الشروط، وهذا كل ما يجب على القاضي أن يقوم به، ثم بعد ذلك لو حصل احتمال الخطأ من أحد الشهود أو منهما فإن ذلك لا يضر؛ لأنه لا يكلف الله الناس إلا بالظاهر، نحن نقول يجري احتمال الخطأ في أخبار البشر، ينقل لك قصة فيها احتمال الخطأ، يحتمل فيه الكذب، لكن الرسول كلامه لا يحتمل إلا الصدق، إذا جاءنا من أخبار الآحاد لا يحتمل إلا الصدق، الطعن في أخبار الآحاد هذه العقيدة الفاسدة عليها الروافض وعليها الخوارج وعليها الزيدية وعليها المعتزلة وعليها الأشاعرة مع الأسف والماتريدية إن أخبار الآحاد تفيد الظن، كل هذا استقوه من الجهمية ومن المعتزلة، هذه الأفكار الرديئة ما كانت موجودة.

في السابق لا يوجد من يقول أخبار آحاد، حتى جاء المعتزلة في القرن الثاني أو القرن الثالث وأدخلوا مثل هذه الشبه، وسرت في هذه الطوائف الضالة، والعياذ بالله، وعصم الله منها أهل السنة والجماعة الذين ظلوا على ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فالرسول كان يبني على خبر الواحد، عليه الصلاة والسّلام، والصحابة كانوا يبنون على خبر الواحد، الرسول الكريم عليه الصلاة والسّلام كان يرسل شخصاً واحداً إلى كسرى، وشخصاً واحداً إلى قيصر، وإلى غيرهما كذلك، ثم يأخذ الجواب منهم، ويرتب عليه تجهيز الجيوش عليه الصلاة والسلام أو ما يراه؛ لأن الحجة قامت عليهم كما قال في كتابه إلى قيصر: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] ((۱) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (7) ومسلم في “صحيحه” رقم (۱۷۷۳) من حديث عبد الله بن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنه) ، فعل ما فعل قيصر، وسأل عن أهل هذا الرجل، وأقرب الناس إليه، فجاء أبو سفيان ومعه مجموعة، وسألهم هرقل أسئلة، وفي ضوء الأسئلة تبين له أن رسول الله رسول الله حقاً، وأراد أن يُسلم، ودعا قومه إلى الإسلام، فأبوا، فآثر ملكه ولم يُسلم، رجع إليه بجواب هرقل شخص واحد، إن هذا ما قبل الإسلام، جهز الجيوش عليه الصلاة والسّلام، رأى أن الحجة تقوم بهذا، «فإن أبيت فإنما عليك إثم الأريسيين»، لو كان يشترط في إقامة الحجة العدد المتواتر هل كان رسول الله يكتفي بواحد؟ ، فبنى عليه أنه إذا رد خبر الواحد هذا فإنه يحمل إثم الأريسيين، الفلاحين أتباعه، تحمل وزرك ووزر أتباعك إذا أبيت، فهو يأثم، ويأثم أتباعه، وهذا الإثم هنا هو الكفر، ثم بعد ذلك جهز الجيوش في غزوة تبوك، عليه الصلاة والسّلام، لماذا؟ لأنه قد قامت عليه الحجة، فيستحق العذاب بخبر واحد، وجهز الجيوش بخبر واحد؛ لأن أصحابه ما كانوا يكذبون، عليه الصلاة والسّلام، أرسل إلى اليمن، أرسل إلى عمان، أرسل، أرسل، أرسل، كاتب الملوك والجبابرة، لماذا يكتفي بالواحد إذا كانت الحجة لا تقوم بخبر الواحد! ، هم يقولون: الحجة لا تقوم بخبر الواحد لأنه ظن، كيف الرسول يكتفي بأن يبعث إلى كل جبار وكل ملك وكل ذي سلطان يرسل له شخصاً واحداً فقط؟ ، ثم بعد ذلك يجهز له الجيوش إذا لم يسلم ويدخل في الإسلام، عليه الصلاة والسّلام، إذن هذه تصفع وجوه أهل البدع وأهل الأهواء، وآيات كثيرة، موسى عليه الصلاة والسّلام جاءه رجل واحد يقول له: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص:۲۰]، فخرج، بنى على خبره، وجاءته امرأة؛ بنت شعيب -إن كان شعيباً الرجل الصالح – تقول له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص: ٢٥]، صدقها، هذا من سير الأنبياء تصديق أخبار الآحاد، ومن سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسّلام، ومنهج شرعه الله تبارك وتعالى، يأتي هؤلاء من أهل الأهواء في القرن الثاني ويضعون مثل هذه القاعدة الفاسدة التي يردون بها أخبار الرسول الصادق المصدوق ﷺ .

س: ما حكم من يستدل بقوله تعالى: «إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» على رد خبر الواحد ؟

ج: هذا حجة عليهم، (إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]؛ لأنك ما تتثبت إلا من خبر الفاسق، ونحن نشترط العدالة في قبول الأخبار، أخبار النبي عليه الصلاة والسّلام وأخبار غيره، فالفاسق ما يقبل خبره، نتثبت، قد يكون صادقاً يعني هذا الكذاب، فإن تبين صدقه قبلنا خبره، ما تبين رددناه، لكن العدل هذا يؤخذ منه، وأخذ منه الأئمة أن التثبت إنما يجب في خبر الفاسق، وأما من ثبتت عدالته فلا تثبت، فهذا العدل الذي ثبتت عدالته تقبل شهادته، وتقبل أخباره، وتقبل تزكيته؛ لأن الله سبحانه وتعالى الذي شرع لنا التثبت في الأخبار لم يشرع لنا التثبت إلا في حق من؟ ، في حق الفاسق، والكذاب فاسق، والكافر لا يقبل خبره، وسيء الحفظ -إذا عرفنا سوء حفظه – هذا ما نرده للطعن في عدالته، وإنما لعدم ضبطه، وهذا شرط في قبول الروايات، فالعدالة والضبط شرطان في قبول الروايات، فإذا توفر هذان الشرطان في رجل نقبل خبره، ونقبل تزكيته، ولا يلزمنا التثبت في خبره؛ لأننا ما أمرنا بالتثبت إلا في أخبار الفاسقين، ولكن مع الأسف الآن يشهد عشرة من الثقات ولا يصدقون؛ لأننا في وقت يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصدوق، والله أنا مجرب، والله يأتي عشرة من الثقات يشهدون عند بعض أهل الأهواء ولا يقبلون شهادتهم، مع الأسف، وقد يقبلون أخبار الفجار الكاذبين، فيصدق الكذوب، ويكذب الصادق، هذا ما عندهم ، أما شرع الله فإن فيه أنه لا يُتثبت إلا في أخبار الفساق، وأما من ثبتت عدالته ودينه ، وصدقه، فإن هذا علينا أن نقبل خبره.


  • من كتاب عون الباري بيان ما تضمنه شرح السنة للإمام البربهاري (ص : 349 – 401)

 

 

  • الخميس 19 جمادى الأولى 1446هـ 21-11-2024م
  • مشاهدات : 982
  • مشاركة :
حقوق النشر لكل مسلم بشرط ذكر المصدر.
تنفيذ : تصميم مصري